abbasbusafwan@gmail.com

حين نفقد الديمقراطية: المنطق لا يحكم القرار

منطقيا، فإن تأييد سبعة أعضاء من بين عشرة قرار تأجيل العريضة الشعبية (وهي معلومة مؤكدة) يقود إلى أن الاستنتاج أن القرار الذي سيتخذ في مجلس إدارة جمعية الوفاق هو رأي الغالبية، بغض النظر عما إذا كان القرار صحيحا أم خاطئا، فأحد أسس الديمقراطية التي ينشدها القطاع السياسي ما يسمى «حكم الغالبية».

بيد أن جملة من المعطيات المتوافرة تشير إلى أن قرار «الوفاق» أيّد المضي قدما في توقيع العريضة الشعبية، ما يعني أن الأقلية قد فرضت رأيها. وهو أمر خطير، وغير مقبول في أية منظمة تنشد بناء قرارها وفق نظرة مؤسسية، بعيدا عن ضغوط خارجة عن الأعراف.

من المؤكد أن التهديدات بالاستقالة (الذي يعد سلوكا غير صحي، وينم إلى الافتقار إلى القيم الديمقراطية) التي قيل أن ثلاثة من أعضاء مجلس إدارة الوفاق (حسن مشيمع، جواد فيروز، عبدالجليل السنكيس) قد لوحوا بها، إذ اتخذ قرار ضد ما يؤمنون أنه صواب. والضغوط الشعبية التي مارسها اللوبي المؤيد للعريضة (وهو سلوك ديمقراطي سليم يمكن لجميع الأطراف استخدامه ضمن منطق السلم)، فضلا عن طبيعة الأجنحة المعتدلة – عموما – التي تحاول التوصل إلى توافق، ولو على حساب قناعاتها… كانت من بين العوامل التي أسهمت في تبني خيار المضي في العريضة الشعبية في الموعد «المقدس»: الأربعاء 21 أبريل/ نيسان الجاري، من دون عقد ندوة شعبية مركزية، بهدف المطالبة بإجراء تعديلات دستورية تلتزم بما جاء في ميثاق العمل الوطني.

غلبة الأقلية

إن هذا السلوك (غلبة الأقلية، والتهديد بالاستقالات) لا يمكن أن يكون مقبولا في الجمعيات الأخرى الشريكة لـ «الوفاق» في التحالف الرباعي، ويمكن التوقع أن يقبل «العمل الديمقراطي»، مثلا، استقالة عدد من أعضائه إذا لم يلتزموا بقرار اتخذ وفق الأطر المتبعة، وهذا ما حدث فعلا في فترات سابقة.

بيد أن هذه الجمعيات والناشطين المستقلين ولوبي الدستوريين، وكثير من المنادين بالمؤسسية داخل «الوفاق» سيصمتون الآن، لأن ما حدث يصب في صالح وجهة نظرهم على المدى القصير، لكنه لا يصب أبدا في مصلحة المؤسسية التي يرجى أن تكون منظمات المجتمع المدني نموذجا في تطبيقها.

وإلا فإن الانتقادات الموجهة إلى الحكومة فيما يخص مصادرة القرار والتعسف والاستفراد بالرأي (بما في ذلك طريقة إصدارها للدستور) لا معنى لها. وتبقى الحكومة والمعارضة سيان في عدم التزامها بما هو متفق عليه من آليات في الديمقراطيات العريقة.

معروف هنا أن من أهم معوقات العمل الدعوي (الديني وغير الديني) يتمثل في عدم التزام الدعاة بالسلوك الذي يدعون الناس إليه، «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم» (البقرة: 44).

حافة الهاوية

إلى ذلك، فإن ما أوصل الوضع إلى حافة الهاوية، هو تصلب الحكومة وتهديدها بحل الجمعيات إذا مضت في موضوع هو من حقها من ناحية أولية. لكن حافة الهاوية التي وصلنا إليها تعود أيضا إلى اللامنطق الذي حكم اتخاذ قرار تحديد موعدين لتدشين العريضة (18 مارس/ آذار الماضي، 21 ابريل الجاري).

إذ لم تجر الجمعيات السياسية أية حوارت ومناقشات بشأن نتائج المؤتمر الدستوري والعريضة، مع الناس والأطراف الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني، بما في الجمعيات السياسية المشاركة في البرلمان، والصحافة، والنخب السياسية والاقتصادية…

الحوار ليس بقصد «أخذ إذن» من أحد لتوقيع العريضة، كما يفهم البعض من الدعوة الجدية للتحضير، وإنما لشرح وجهة نظر الجمعيات الأربع في العريضة وأهميتها، والأسباب التي تملي تحديد موعد قريب جدا لتدشين العريضة، أي بعيد انتهاء المؤتمر الدستوري مباشرة، وخلال العام الجاري.

لو تم ذلك، لأدركت الجمعيات باكرا الخطوات المتوقع من الحكومة أن تتخذها، وما هو موقف العلماء والأطراف المتباينة داخل جميعة الوفاق، والوقت المناسب للبدء فيها تعبئة الشارع… ولأمكن في ضوء كل ذلك وضع خطط لضمان موقف صلب من العلماء والنخبة السياسية مؤيد للعريضة، وللآليات التي سيتم التعامل من خلالها مع ردود فعل الحكومة وهجومها، ولتفادي حدوث انشقاقات في أهم جمعية معارضة. وتفادت الجمعيات تحديد موعد ثم تأجيله دون أن تحقق كسبا سياسيا، بل ظهر قياداتها إلى الناس يشتكون، ولما جعل موعد 21 ابريل المقدس مختلف عليه.

إن مفهوم التحضير الجيد عرض على ناشطين في الجميعات الأربع، وكانوا ينظرون إليه على أنه تفلسف زائد، وتعقيد للأمور.

وأذكّر هنا بأن الفارق كبير بين التحضير للمؤتمر الدستوري، والعريضة الشعبية، وهذا ما جعل الأول يبدو أكثر إدراكا لتعقيدات الواقع، وأكثر قدرة على التعاطي مع مستجداته حينها، ليس لأن المؤتمر فعل قانوني، والعريضة خارجة عن القانون، بل لأن الأول حظي بنقاش جدي، وقادته نخبة (على رغم تشددها) فإنها تفضل اللعب في المكاتب، وبين «سلق البيض» الذي تم به التحضير للعريضة التي لم تعلن بعد مسودتها النهائية، ولم تعلن أمكنة إقامة الندوات.

العريضة: مخاوف قديمة

أشير هنا إلى أن العريضة الشعبية هي التوصية العملية الوحيدة التي تضمنها البيان الصادر من المؤتمر الدستوري الذي انعقد في منتصف فبراير/ شباط الماضي.

وقد وضعت هذه التوصية – حينها – كي لا تكون العريضة مجال أخذ ورد، في أية حوارات مقبلة، داخل أروقة الجمعيات الأربع ولجنة المتابعة التي يفترض أن يناط بها ملف العمل على تنفيذ مقررات المؤتمر الدستوري. وبالتالي، فإن الشك في المضي في العريضة كان يراود بعض الأطراف في المؤتمر الدستوري، ولم يكن وليد اللحظة الراهنة.

في الوقت الراهن فإن الجهد يتركز للبحث عن مخارج لتوقيع العريضة، بما يجنب تنفيذ الحكومة لقرار حل الجميعات الأربع وإغلاق مقراتها.

أولى هذه الخطوات هي الاستغناء عن الندوة الجماهيرية، التي كان من المقرر أن تدشن العريضة. ويبدو أن الخيار الآن حسم لصالح عقد ندوات متزامنة في مقر كل جمعية من الجمعيات الأربع في اليوم المحدد (21 من الشهر الجاري) ودعوة أعضاء الجمعيات فقط لتوقيع العريضة، التزاما بمطالب وزير العمل والشئون الاجتماعية بأن ينحصر التوقيع في أعضاء الجمعيات، وفي خطوة لاحقة قد يتم تشكيل لجنة أهلية يناط بها جمع التوقيعات، في ظل أمل بأن يطلب من الراغبين في التوقيع الانضمام إلى الجمعيات، لكن الإجراء الأخير قد لا يخلو من «فرض»، وهو إجراء غير دستوري وغير ديمقراطي، والأرجح أن لا يتم الأخذ به.

إن ما سيق (التوقيع على دفعتين: الأعضاء ثم غير الأعضاء) يحقق للجمعيات هدفين: الأول، يظهرها أمام الحكومة (والقانون) ملتزمة بضوابط المادة 29 من الدستور وفق التفسير الحكومي، ما يجنبها الصدام. كما يظهرها، ثانيا، أمام جمهورها بأنها ملتزمة بما قطعته من وعود علنية بأن تتصدى للمسألة الدستورية بحزم وواقعية.

تأجيل العريضة: الخيار الممكن

في الجانب الآخر من المشهد، يرى مراقبون أن تأجيل العريضة بضعة أسابيع، أو عدة أشهر، سيكون له صدى سلبيا عند جمهورها عموما، لكنه سيحقق بالمقابل كسبا سياسيا كبيرا. إذ ستبدو المعارضة راغبة في نقاش مشكلات البلد مع مراعاة مواقف الآخر، وملاحظات المرجعية الدينية والقوى السياسية الأخرى ومخاوفها من أن يكون التوقيع شرارة لتفجير الوضع. خصوصا وإن عددا من أهداف العريضة قد تحقق.

وكما يقال: «إن التلويح بالشيء أفضل من استخدامه»، وتوقيع العريضة بعد ستة أشهر، أو قبيل الانتخابات النيابية المقبلة، مثلا، فضلا عن كونه يتيح مجالا رحبا للنقاش والتهدئة، فإنه يمكن أن يكون أداة ضغط جدية على الحكومة للتوصل إلى حلول للمسألة الدستورية، في ظل فهم سياسي بأن العريضة ليست آلية قانونية للاستفتاء، وإنما آلية للضغط السياسي. ويحذر مراقبون من الدخول في حرب أرقام، كما حدث إبان الانتخابات النيابية في أكتوبر/ تشرين الأول، إذ يفهم من تصريحات المعارضين بأن الهدف من التوقيع كسر حاجز الـ 53 في المئة التي حققتها الحكومة في الانتخابات النيابية، فذلك قد يجر إلى عريضة مضادة، يمكن ان يوقع عليها الآلاف أيضا، فالحكومة جمهورها.

لقد ساد الارتياح صباح أمس في صفوف النخبة السياسية عندما انتشر خبر التأجيل، وفكّر الكثيرون بأن على الحكومة التفكير في مكافأة «الوفاق»، وبالفعل فإن الطاقم الحكومي بدأ مشاورات لتحقيق ذلك، لكن التفاؤل تلاشى حين اتضح أن التأجيل لن يتم، وإن خفف من ذلك بأن التوقيع سينحصر في أعضاء الجمعيات.

إن التوافق مبدأ مهم من مبادئ الحكم الصالح، يجدر بالجميع مراعاته، وإلا فإن الحروب ستستعر. والأولى راهنا التفكير في كيفية جعل العريضة أو غيرها من الأنشطة المباحة، طريقا نحو الوصول إلى التوافق

المصدر: حين نفقد الديمقراطية: المنطق لا يحكم القرار

انشر وشارك

مقالات ذات صلة