abbasbusafwan@gmail.com

هل معركة المعارضة مع UNDP في محلها؟

دخلت المعارضة الدستورية في تسعينات القرن الماضي معركة ضد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، المقيم في المنامة، الذي كان يعلن، في استقبال رسمي من داخل مبنى الحكومة، ان البحرين تتربع على قمة الدول العربية في مجال التنمية البشرية، 12 مرة، من اصل 15 تقريراً، أصدرها البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة.

ويعلن في الوقت ذاته أن البحرين تحظى بمركز متقدم نسبيا على الصعيد العالمي، إذ حصلت على المركز 40 في التقرير الأخير (15) الذي دشن حديثا، من بين 177 دولة ضمها التقرير الدولي.

حينها (في التسعينات) لم يدرك خطاب المعارضة أن التقرير لا يتحدث عن حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية… ما جعلها تشن حربا ضروساً على التقرير، والبرنامج الذي يصدره، والممثل المقيم الذي لا يبدو أن تأثيره كبيرا في إعداده، وتتهمه بعدم الحياد وأمور أخرى، من دون أن تكتشف أن هذه الحرب في غير مكانها الصحيح. وعلى الأرجح فإن المعارضة مازالت واقعة في الخطأ ذاته.

ما كان يزيد من غيض المعارضة، ومازال، هو تعاطي الحكومة مع التقرير، إذ كانت تقيم الاحتفالات على وقعه، معتبرة إياه انجازا سياسيا مهما، يدحض مقولات المعارضة التي كانت تتهم الحكومة بالفساد وتضييع ثروات البلاد.

الحكومة حينها كانت واقعة فعلا، من رأسها حتى أخمص قدميها في «الجرم» المشهود، سياسيا – بتعليقها دستور وبرلمان البلاد – وحقوقيا، بسبب انتهاكاتها الواسعة والفظة لحقوق مواطنيها المطالبين بإعادة تفعيل الحياة النيابية المتوقفة منذ العام 1975.

وربما يكون التقرير أحد أدواتها القليلة التي كانت ترفعه أمام الرأي العام المحلي والعربي والدولي، للإشارة إلى أن البحرين في المقدمة فعلا لا قولا، وبحسب مقاييس دولية محايدة لا تقارير حكومية مفتعلة.

لعبت الحكومة لعبة ذكية، لم تكشف خيوطها المعارضة، وليس بعيد القول ان المعارضة مازالت كذلك.

كانت الحكومة تسيّس التقرير البعيد، بشكل أو آخر، عن السياسة، وتقيم الاحتفالات والندوات والاستقبالات، وتصدر التقارير الوطنية باعتبارها شهادة على نجاح النموذج البحريني في التنمية، مع الإشارة إلى أن هذا التسييس هو سلوك عام، انتهجته الحكومة في هذا الملف، وفي ملفات مشابهة، وإن لم يصدقها مواطنوها، لأسباب أو أخرى، من بينها تكرار أن البحرين هي الأولى في كل شيء…

وضمنا، بل تصريحا، فإن لسان حال الحكومة كان يردد بأن القول بفساد السلطة وتسلطها غير صحيح وتدحضه تقارير دولية (على رغم أن التقرير الدولي لا يقول ذلك)، وبالتالي فإن المطالبة «بما يسمى ديمقراطية وشراكة في اتخاذ القرار»، كما يردد «المتطرفون» في الداخل والخارج – بحسب الرأي الحكومي – ليس ذا معنى، أو على الأقل ليس ملحا، مادامت السلطات الرسمية قادرة على اتباع نموذج تنموي يجعل البلد – غير الغني بالنفط – في مقدمة الدول العربية.

وللدلالة على التسييس الممنهج، يمكن الملاحظة أن الحكومة لم تعد بحاجة إلى تسييس كهذا، فهي استنفدت حاجتها، مؤقتا على الأقل، لذلك تراها لم تحتفل هذا العام بفوز البحرين، بينما شهد العام الماضي احتفالات كبيرة، أبرزها الاستقبال الذي نظمته جمعية التدريب البحرينية، القريبة من المؤسسة الرسمية، على شرف التقرير في فندق ريتز كارلتون، تحدث فيه ممثل الأمم المتحدة الإنمائي خالد علوش، وأحد أبرز صانعي القرار في مرحلة التسعينات وزير شئون مجلس الوزراء الحالي محمد المطوع.

والفرق بين الوضعين، أن الحكومة في العام الجاري ليست بحاجة إلى ردود على أحد، فالمعارضة ومؤسسات المجتمع المدني وكذلك الصحافة لم تلتفت إلى فحوى التقرير ومدلولاته المهمة، ولم تتهم االبرنامج الإنمائي بمحاباة البحرين في التقرير «النظري» الذي ركز على احترام الثقافات، وما تتطلبه من مساواة وتكافؤ فرص، على رغم كون مضمون التقرير، في جانبه المتعلق بالمساواة الكاملة وعدم التهميش، أحد أعقد المعضلات في البلد، من وجهة نظر المعارضة على الأقل.

فيما احتاجت الحكومة إلى الاحتفال في العام الماضي، لأن التقرير «النظري» تحدث عن الفقر، وحينها شككت الصحافة في القول إن فقراً غير موجود في البحرين… كما تدخلت لاحقا المعارضة والصناديق الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني منتقدة تقرير الأمم المتحدة.

ويبدو لي أن تقرير البرنامج الإنمائي لم يجاف الواقع بالضرورة، ذلك أنه تحدث عن «الفقر المدقع»، وهو غير موجود في البحرين بحسب المقاييس الدولية، في حين تحدث القطاع المدني عن «الفقر النسبي»، المستشري في مدن البحرين وقراها.

وكما فشلت قوى المجتمع المدني، بما في ذلك جمعيتا الاجتماعيين والاقتصاديين والجمعيات الحقوقية وكذلك قوى المعارضة…، في قراءة تقرير العام الجاري، إذ لم تنظم المنظمات المدنية أية فعالية لدرس مضمون التقرير، واستكشاف المناطق الذي يطرقها، والأفكار التي يبثها، والسياسات الحكومية التي يقترحها، وانعكاساته على البلد، وكيفية الاستفادة منه لتحقيق مزيد من احترام التنوع الثقافي… فإن هذه القوى لم تستطع التقدم إلى أبعد من النقد الذي وجهته إلى مفهوم الفقر، ولم تطور مؤشرات لقياس الفقر في البحرين، يمكن أن «تستعيره» أو تسترشد به المنظمة الدولية في إعداد تقاريرها.

وهذا ما يمكن قوله عن مؤشرات الثلاثة الرئيسية (التعليم، الصحة، متوسط الدخل) التي تُعتمد في تصنيف الدول. علما بأن دولا أخرى محدودة الدخل كالبوسنة والهرسك الخارجة من حرب أهلية مدمرة استطاعت أن تطور مؤشرات خاصة بها عن التنمية البشرية.

وبالعود إلى تعاطي المعارضة مع التقرير. فإنها شنت حربا على التقرير طوال سنوات، من دون أن تحاول فحص المؤشرات التي يبنى عليها التصنيف، والإجابة على «لغز» كون البحرين في المقدمة مع أن واقعها لا يعكس ذلك في بعض الجوانب. من دون أن ننسى ما قد يثيره خطاب المعارضة هذا، من حساسية السلطات، التي لم تفتئ تشكك في «ولاء» المنتقدين للتقرير،إذ كانت ترى أنه يجب عليهم الفرح كون بلدهم يحظى بمكانة مرموقة.

في الواقع، فإن التقارير المتتالية لا تستحق كل هذا القذف، وإن كان النقد لها مطلوبا. وهو نقد يمارسه القيمون على إعداد التقارير، مشيرين إلى اسباب اعتمادهم على معايير دون أخرى لتصنيف الدول، معتبرين ما يحدث خطوة، يفترض أن تتلوها خطوات في سبيل تطوير مؤشرات أكثر شمولية لقياس التنمية البشرية، معتبرين المقياس الحالي أفضل من المقاييس التقليدية التي كانت تركز على المؤشرات الاقتصادية.

إن التقارير في التسعينات لم تكن تبرء ساحة الدولة من أي أخطاء في حق مواطنيها، ولم تقل ان الدستور غير معلق، وان البرلمان مفعل، وان حرية الصحافة والتعبير مكفولة، وان العمل الحزبي مشروع، وان التمييز لا يحدث، وان السجون خالية من المعتقلين السياسين، وإذا وجدوا فإن حقوقهم مصانة، وأن الشفافية سائدة في تداول المعلومات وفي المناقصات… كل هذه الأمور لم تتطرق إليها التقارير، وليس على أساسها تبنى التصنيفات.

وفي الوقت ذاته، فإن تقرير هذا العام لا يروج للسياسات الحكومية بالصورة التي تتصورها بعض الأنظار، التي هي إما لم تقرأ التقرير أو قرأته بأحكام مسبقة، ونظارة مؤدلجة.

كان التقرير ولايزال يتحدث عن ثلاثة مؤشرات لا غير، هي التعليم والصحة ومتوسط الدخل، وعلى أساسها يوضع ترتيب الدولة. وهذا ما يجعل الدول الخليجية الأخرى في مراكز متقدمة نسبيا، مع أنها غير ديمقراطية.

إن هذه المؤشرات تقيس الجانب الكمي فقط، من دون أن تغوص في البعد النوعي. ويمكن تسجيل ملاحظات عدة على عدم شموليتها وغفلتها عن جوانب يراها البعض أكثر أهمية.

بيد أنها تعكس على الأرجح الواقع الذي تقيسه، مع إدراك الاشكالات التي تحيط عملية الإحصاء عموما، والتي تكون مضللة أحيانا. فأحوال البلد في التعليم، على الصعيد الكمي، ممتازة، إذ إن جميع المواطنين يحصلون على التعليم الأساسي، بما في ذلك الإناث، وتبلغ نسبة التمدرس قرابة مئة في المئة، ولا يعرف البحرينيون ظاهرة الحرمان من التعليم لأي سبب كان.

وإذا وجدت مشكلات على صعيد نوعية التعليم، وعدم قدرته على مواكبة سوق العمل، وإشكال الجوهر الذي يتلقاه الطالب، واستبعاد ثقافة من الثقافات، وعدم تدريس مذهب من المذاهب، فهذه أمور لا يتحدث عنها التقرير، وهو لم يدّع الحديث عنها…

وهنا تأتي أهمية بناء معايير محلية لقياس مؤشر التعليم، والمؤشران الآخران (الصحة، ومتوسط الدخل)، يأخذ بالاعتبار المستوى الذي نعيشه والواقع الذي نرجوه، وهذا لن يتم إلا بمبادرة من القوى الأهلية، أساسا، التي عليها أن تشكل لوبيات تضغط باتجاه تجاوز المعايير الكمية في قياس التعليم والصحة ومتوسط الدخل، وتقترح مؤشرات إضافية لتنمية البشرية.

لا تستحق التقارير كل هذا القذف، لا في السابق ولا في الوقت الراهن. كما لا تستحق التجاهل، كما حدث في الوقت الراهن، وعلى العكس من ذلك فقد تكون مدخلا مناسبا للتطوير، وتأكيد الشراكة بين المؤسسات الرسمية والأهلية والدولية لمزيد من تحقيق التنمية الشاملة

العدد 696 – الإثنين 02 أغسطس 2004م الموافق 15 جمادى الآخرة 1425هـ

المصدر: هل معركة المعارضة مع UNDP في محلها؟

انشر وشارك

مقالات ذات صلة