abbasbusafwan@gmail.com

الخليج.. الإرث البريطاني والمستقبل

عباس بوصفوان

مركز البحرين للدراسات

يظهر أن بريطانيا عنصر فاعل في تشكيل الدول الخليجية، ونمط الحكم فيها، تاريخيا وراهنا، على أرضية “الحفاظ على الوضع الراهن”، وهو ما يستدعي قراءة، وتبصرا في دورها المستقبلي.

خرائط الخليج

لعبت المملكة المتحدة دورا كبيرا في تحديد خرائط المنطقة. بيد إن التركيز يتم عادة على ترسيم ما يعرف ببلدان الهلال الخصيب عبر اتفاقية سايكس بيكو البريطانية الفرنسية الروسية.

لقد كان الدور البريطاني حيويا في تشكل جغرافية وحدود الدول العربية الست على الضفة الغربية للخليج والتي بزغت واستقلت خلال عقد السبعينات من القرن الماضي (البحرين، قطر، الإمارات، عمان وقطر)، باستثناء الكويت التي أعلن استقلالها في ١٩٦١، خشية ابتلاعها عراقيا.

قد ينظر البعض بسلبية إلى المساهمة البريطانية في تشكيل خارطة الدول الخليجية، لكن لنلحظ أن الصراع الحاضر هو في القدرة على الإبقاء على خارطة سايكس بيكو، كما رسمها الاستعمار الغربي.

بينما تجاهد البحرين كي تبقى دولة مستقلة على الحدود التي أقرها الاستعمار أيضا، بدل ابتلاعها سعوديا، تحت مسمى الاتحاد الخليجي، أو أي عنوان آخر.

ولم تكن بريطانيا الفاعل الوحيد في الصيغة التي انتهت لها خرائط الخليج. صحيح أنها كانت القوة المهنية طوال نحو ١٥٠ سنة، أي منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين – حين فقدت بريطانيا عظمتها المعهودة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية – لكن لندن لم تكن القوة الوحيدة والعامل المطلق في المآلات التي تشكلت بها بلدان الخليج الست، ويمكن أن يقال ذلك أيضا عن العراق وإيران.

لقد لعبت الحروب بين الأسر الحاكمة، وانحيازات الدول الإقليمية، خصوصا إيران والسعودية، أدورا لا يمكن أن يتم غض البصر عنها في الصياغات النهائية للخرائط.

وفي حالة البحرين، فإن تثبيتها ضمن النفوذ السعودي قد تكون أبرز من معالم الإرث البريطاني في الخليج. فقد استقلت البحرين بعد تفاهم بين بريطانيا وإيران والسعودية، وكان للأمم المتحدة والعراق والنخبة الشعبية في البلاد أدورا متباينة في إعلان استقلال البحرين في ١٤ أغسطس ١٩٧١.[1]

الاستقلالات

استقلال الدول في الخليج ارث بريطاني واستحقاق للشعوب. ومن دون شك هناك بعض الجهد الشعبي للتحرر من الاستعمار. لكن الدول الخليجية وشعوبها لم تخض حروبا على شاكلة الجزائر مثلا. ولا تبدو الدول الخليجية الست استثناء، فالعراق ومصر كبلدين عربيين كبيرين خاضا نضالا سياسيا وليس عسكريا ونجحا في الاستقلال.

وفي الواقع، فإن من بين مبررات الخروج البريطاني من شرق السويس – كما أعلنت حكومة حزب العمال في نهاية الستينات – تمثل في عجز الحكومة البريطانية عن الوفاء باحتياجات جيوش الاستعمار.

معلوم إن الامبراطوريات تتهاوى لأسباب عديدة، من بينها عدم القدرة على تمويل الحروب والجيوش والتمدد الخارجي، وهذا ينطبق على الإمبراطورية الرومانية قديما، وفي العصر الحديث ينطبق ذلك على الإمبراطورية البريطانية والسوفيتية، وربما يسجل ذلك على الامبراطورية الأمريكية التي أرهقتها حروب العراق وأفغانستان.

ويتحدث الأمريكان عن نمط مختلف عن الاستعمار القديم المنقرض، ويختارون شعار شركاء وحلفاء لا مستعمَرين، في تواجدهم في الخليج واليابان وأوروبا.

العوائل الحاكمة

من دون شك، النظام السياسي الراهن في الخليج هو تركة البريطانيين. ومن جديد هذا لا يعني أنهم العامل الوحيد في المآل الديكتاتوري الراهن، لكنه عامل أساسي.

ولعل الدور البريطاني في الخليج يبرز أكثر في الانتصار لعائلة حاكمة دون أخرى، وفي الغلبة لجناح ما في العوائل الحاكمة، أو الظفر لمشيخة ما في الخلافات الحدودية، لكن هذا لا ينفي الأدوار الذاتية للقبائل الحاكمة، والحروب التي خاضتها للاستيلاء على الأراضي وفي التمدد الذي حصل (مثال ابن سعود)، أو في الانكفاء والتدهور الذي أصاب السلطنة العمانية (مثالا)، التي انكفأت وخسرت تباعا هيمنتها، حتى انتهت إلى القالب الذي عليه حاليا.

شركات النفط

تأسست معظم شركات البترول في الخليج على أيدي البريطانيين، أو الأمريكيين شرط موافقة حكومة بريطانيا.

فقد أبرمت بريطانيا اتفاقيات مع المشيخات الخليجية تفرض عليها توقيع عقود التنقيبات النفطية مع الشركات البريطانية. وبالنظر إلى افتقار البريطانيين للمال والأسواق، فضلا عن أفول نجم لندن كإمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، حلت أمريكا مكانها [2].

الإرث البريطاني في البحرين

طبقت بريطانيا استعمارا استيطانيا في أمريكا واستراليا، وحكما مباشرا في الهند.

ويتحدث البريطانيون عن حكم غير مباشر للبحرين والمنطقة الخليجية. لكن ذلك التوصيف يبدو ادعاء. فاستقلال البحرين كان دائما “افتراض قانوني” كما كان يردد العديد من المندوبين البريطانيين في المنطقة. فقد هيمن البريطانيون على القرار السياسي والأمني والقضائي والجمركي دون الاعتراف ذلك، خشية التعقيدات الدولية.

في ١٨٢٠، وقعت البحرين “المعاهدة البحرية العامة” التي أبرمتها مشيخات الساحل الغربي، لمنع “القرصنة” والحروب البينية بين الدويلات.

وتم عقد هذه الاتفاقية بعد أن دكت بريطانيا اسطول القواسم الخضم، كما تزامن اندحار القواسم مع انهيار الدولة السعودية الأولى.

ومع حلول ١٨٨٠ تحولت البحرين إلى محمية بريطانية يمتنع بموجبها حكام الجزيرة الصغيرة من آل خليفة عن التفاوض أو ابرام معاهدات مع أي دولة أخرى بدون موافقة الحكومة البريطانية [3].

ويسجل للإنجليز نجاح في فرض هدوء نسبي على سواحل الخليج. ولكن في البحرين استمر الحكم الخليفي يفرض السخرة والرقبة ضد البحارنة/ الشعية، وحين يتحدث بعض الباحثين عن أن قدرا كبير من القانون والنظام قد تم تأسيسهما في البحرين بإشراف بريطاني، فإنه توصيف لا يعكس الحقيقة.

وخلع البريطانيون محمد بن عبد الله آل خليفة وعيّنوا عيسى بن علي بدلا منه، وذلك في ١٨٦٩. ما يعكس سطوة بريطانية على القرار السياسي في الجزيرة.

وطوال الوقت، كان البريطانيون راضون بالاستئثار الخليفي، والقهر ضد الشيعة. والوثائق البريطانية التي سجلت الاضطهاد في القرنين التاسع عشر والعشرين موجهة للحكومة في لندن، وليس لتحسين أوضاع “السكان المحليين”.

وفي حالات كثيرة لم تكن تلك التقارير معلنة، كما هو حال التقارير الراهنة التي تصدرها الخارجية الأمريكية والمليئة بالانتهاكات الخليفية، وفي الحالتين لم تتحول التقارير البريطانية القديمة أو الأمريكية الجديدة إلى برنامج للإصلاح.

سأضرب مثلا واحدا لتأكيد رضا البريطانيين عن خضوع البحارنة لنوع فاضح من أنماط العبودية، المسمى “نظام السخرة”، ويعني فرض العمل المجاني على السكان لدى الأسرة الحاكمة.

ففي 1904، أراد أحد شيوخ آل خليفة ويدعى علي بن أحمد آل خليفة، إنفاذ قانون السخرة على عامل يشتغل لصالح تاجر ألماني، وبعد أخذ ورد، قررت بريطانيا نفي علي بن أحمد، وحظر تشغيل الأفراد الأجيرين لدى الأوروبيين بنظام السخرة [4].

حينها، لم يُمنع تطبيق السخرة عن البحارنة، وكذا لم يتم حظر قانون الرقبة (فرض الضريبة على أي ذكر يبلغ من العمر ١٥ عاما).

ولذا، اندلعت “انتفاضة البحارنة” في ١٩٢٢، فردت بريطانيا بإزاحة عيسى بن علي الذي كانت عينته في ١٨٦٩، ونصبت مكانه ابنه حمد بن عيسى حاكما للبحرين في ١٩٢٣.

لكنها (بريطانيا) وظفت أيضا تشارلز بليغريف مستشارا للحاكم في ١٩٢٦ ليشرف على تطبيق “إصلاحات إدارية”. ويعد بليغريف أشهر مسئول بريطاني تسلط على الجزيرة في القرن العشرين، فقد صار سلطانا فعليا حتى ١٩٥٧. وكان له دور فاعل فيما سمي بالإصلاح الإداري، وضلع أساسي في اجهاض الحركة الوطنية في الخمسينات المطالبة بالإصلاح.

واعتبر البعض إزاحة عيسى بن علي بمثابة انتصار بريطاني للبحارنة/ الشيعة، وهو ما يحتاج إلى إعادة قراءة. صحيح ان البحارنة حققوا بعض المكاسب مثل الغاء نظامي السخرة والرقبة، لكن البريطانيين عززوا فعليا سلطات آل خليفة.

ولا يسجل التاريخ رغبة بريطانية في الإصلاح السياسي في البحرين والمنطقة. سواء من الجهات البريطانية في الخليج أو لندن. فقد كسب البحارنة قليلا بعد ١٩٢٣، لكن مكاسب الحكم كانت مضاعفة. ربما كما حدث في ٢٠٠١ – ٢٠٠٢، فقد كسبت الحركة الوطنية بعض الشيء من التوقيع على ميثاق العمل الوطني، لكن الحكم تمكن من قلب الأوضاع رأسا على عقب لصالحه.

مستقبل العلاقة مع الانجليز

هناك من يدعو إلى إعادة قراءة أداء الحركات الوطنية في تعاطيها مع الاستعمار البريطاني. ويوجّه النقد خصوصا إلى حركة الخمسينات التي خلطت بين مطالبتها بالإصلاح في البحرين، بالدعوة للخروج البريطاني، بالانتصار لجمال عبد الناصر ضد الانجليز.

قد يكون ذاك النقد مليئا بالثغرات، لكن الفكرة هنا كيف كان لحركة وطنية أن تكسب تعاطفا من القوى الدولية وهي ترفع شعارات مضادة لها. ولعل هذا السؤال يتردد الآن بالنظر لطبيعة الدور البريطاني المتزايد في البحرين.

جلي أن الغرب لن يناصر الإصلاح السياسي في البحرين والخليج. أو على الأقل سيأخذ نصيحة بليغريف منارة له، وهو الذي خلص إلى أن التصحيح بوتيرة سريعة سيتسبب بكارثة [5].

وأوجه دعوة لدراسة عميقة لمستقبل العلاقة مع بريطانيا والغرب، وأدعو إلى اجتهاد جماعي لبلورة تصور يأخذ بالاعتبار أن الأطر الحقوقية الدولية غير فاعلة، وأن المملكة المتحدة وفية للغاية لما يسمى الحفاظ على الوضع الراهن، وهي ليست مغرمة بالتغيير، فقد وقفت على نحو فاقع مع الحكم في البحرين، ويتوقع أن ذلك سيستمر.

إن رسم العلاقة مع البريطانيين، لا ينبغي أن يقودها الانفعال أو القراءة الخاطئة. القراءة الخاطئة: هي افتراض أن أمريكا وبريطانيا سينتصرون لمطالب المشاركة الشعبية في القرار السياسي ضد العائلة الحاكمة. والانفعال: أن تعلن المعارضة معاداة الجهاز البريطاني، باعتباره إطارا داعما للأسرة الحاكمة.

إن الحاجة ماسة لإعادة التموضع إزاء تغييرات لا تنكر في بنية الحدث الدولي والإقليمي، وأن يأخذ بالاعتبار أيضا والتغييرات في قمة الهرم في الرياض، والأزمة السعودية الإماراتية المصرية البحرينية مع قطر، والتبدلات في توازنات الأسرة الخليفية، وانتقال الثقل المعارض إلى الخارج.

وأي تصورات أو خلاصات بشأن ذلك من الأجدر أن تصاغ نتيجة اجتهاد جماعي.

[1]. زوي هولمان، إيران والسؤال البحريني: طائفية أم استراتيجية؟، مركز البحرين للدراسات في لندن، نوفمبر ٢٠١٣.

[2] . قناة الجزيرة، ملف الصراع على الخليج، الجزء الثالث، ٢٧ أكتوبر ٢٠١٠.

[3] . حسن سعيد، بريطانيا والبحرين قبل الاستقلال: حماية أم استعمار؟، صحيفة الوسط، ٢٢ فبراير ٢٠١٥.

[4] . أحمد العبيدلي، حين حكمت بريطانيا البحريــن.. بشكل غير مباشر، صحيفة الوقت، ٣-٤ فبراير ٢٠٠٧.

[5] . لوي أولداي، تشارلز بلجريف – المستشار، مكتبة قطر الرقمية.بريطانيا والخليج

انشر وشارك

مقالات ذات صلة