التجلي الأول: العلاقة بين المعتقد الديني والأمور السياسية الدنيوية، في الأنظمة الحاكمة على ضفتي الخليج، وتحديداً في تجارب إيران، العراق، والسعودية.
التجلي الثاني: الصراع بين الديني والسياسي كما يتبين في أطروحات الحركيين الإسلاميين في بعض دول مجلس التعاون الخليج التي شهدت احتجاجات أو مطالبات شعبية منادية بالتغيير، في أولى مقاطع ما سمي بـ«الربيع العربي». على صعيد أنظمة الحكم، سنتحدث عن ثلاثة تمظهرات تعبّر عن العلاقة الفارقة بين الديني والسياسي السعودية والعراق وإيران:
إيران: ولاية الفقيه المقننة
في إيران، نموذج إسلامي، وفق المبنى الشيعي الاثنا عشري، مثبت دستورياً، ينتهج ثنائية ولاية الفقيه والمؤسسات الدستورية المنتخبة. ويلعب رجال الدين دوراً استثنائياً في رسم السياسات وتسيير كافة شؤون الحياة العامة.
ويتمتع المرشد – الذي يتوجب أن يكون آية الله وخبيراً في شؤون الدين والدنيا – بصلاحيات واسعة، يستمدها من الدستور الذي أقره الشعب في استفتاء حر، في مارس/ آذار ١٩٧٩، ثمّ على تعديلات الدستور في عام ١٩٨٩، والتي وسّعت صلاحيات الولي الفقيه.
وتمكّن النموذج الإيراني من بناء أمثولة تمزج بين الفرضيات/ النظريات الإسلامية من جهة، والنموذج الغربي في بناء المؤسسات الدستورية من جهة أخرى.
وينتج ذلك تسيّد خريجي الحوزات وآيات الله على مساحات واسعة من أطر الحياة، لكن المنتخبين من هؤلاء المعممين عبر صناديق الاقتراع، وليس المعينين.
وتعلي الصيغة الإيرانية من شأن الحضور الشعبي في المشهد السياسي. فقد بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة – التي فاز بها الرئيس حسن روحاني – نحو ٧٣ في المئة.
وهناك جدل مشروع فيما إذا كان هذا المثال يجسّد تعبيراً كاملاً عن النموذج الديمقراطي الغربي أم لا؟ والجواب سريعاً بالنفي.
وفي ظني، فإن متانة النموذج الإيراني تكمن في كونها إبرازاً خاصاً لمركزية الدين والفقيه في الذهنية الإسلامية الشيعية، وفي الوقت عينه، تجلياً للوعي الإيراني الملحوظ بأن فرض النموذج الإسلامي بالقوة على المواطنين أمر يتناقض والإسلام، وروح العصر أيضاً. ومن هنا تنبثق المؤسسات الدستورية – الملتزمة بتطبيق النص الديني – عبر صناديق الاقتراع. وتتصارع القوى المختلفة سلمياً ودورياً لنيل ثقة الشعب.
وفي ظنّي أيضاً، فإن فرضية تبلور قالب إيراني أكثر انفتاحاً قد تمت إعاقتها بسبب المحاولات الغربية لإجهاض التجربة الجمهورية الإسلامية.
بيد أن الحرب الغربية والعربية ضد نظام طهران أدت في المقابل إلى تقوية الجذور الشعبية للحكم الذي جاهد للجمع بين المفاهيم الدينية ونتاجات الحضارة الإنسانية في إدارة شؤون الدولة.
لقد بات الحكم بثنائية الجمهورية والإسلامية واقفاً على رجليه، بسبب الالتفاف الشعبي أساساً. كما تمكّن النظام الإيراني – في حالات عدة – من تحويل الكثير من تحدياته السياسية والعسكرية والاقتصادية إلى فرص.
ولما كان الهجوم الغربي قادراً في معظم الحالات على زيادة اللحمة الإيرانية، فإنه لا يصح تغافل افتراض الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في أن انفتاح واشنطن على طهران ـ إثر الاتفاقية النووية – قد مهد الطريق لاختراق أميركي للمجتمع الإيراني.
ولعله من مصلحة إيران أن الرئيس الحالي دونالد ترامب، في مسعاه الدؤوب لإشعال العالم والإقليم ضد طهران، فإنه يقضي تماماً على فرضية أوباما تلك، مؤقتاً على الأقل.
وبسلوكه المعادي، يلفت ترامب الإيرانيين من جديد للنوايا الأميركية غير البريئة تجاه نموذج الاستقلال والتنمية الإيراني.
والتنمية هذه مفتاح آخر يدركها الإسلاميون الحاكمون في طهران، ويستوعبون أنهم بحاجة إلى بذل مزيد من الجهد لملاحقة عالم يتغيّر باطراد. فالإسلام دين ودنيا أيضاً، خصوصاً مع تطلّع قطاعات لا يستهان بها في طهران وضواحيها إلى النماذج العربية الخليجية المجاورة التي ترتفع فيها ناطحات السحاب بعد أن كانت صحراء قاحلة مع بزوغ الثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩.
لكن ربما على الإيرانيين التبصر في عينة الاستقلال المفقودة خليجياً، والهوية المهددة في هذه البلدان. ورغم وجود الكثير مما يحتاج إلى إنماء في منظومة اتخاذ القرار في طهران، فإن تسمية الحكم الإيراني بالإسلامي والجمهوري تفصح عن توافق مطلوب ومقبول وذكي وقابل للتطور، بما يقي إيران من صراع غير منضبط بين مبادئ الدين الراسخة والمقدسة، واستراتيجيات السياسة وتكتيكاتها المتسمة بالتبدل.
ويبدو أن التصويت الشعبي قادر حتى الآن على أن يكون المرتكز الأهم لتجربة إيران، وهو ما يستدعي على الدوام توسعته وتنميته وتقنينه.
العراق: ولاية الفقيه غير المكتوبة
في العراق، يقع مركز الحوزة التقليدية الشيعية. ويتمتع المرجع الديني الأعلى عادة بتأثير واسع النطاق في مسار التطورات العراقية. ولا يغيّر في ذلك أن «صلاحيات» المرجع غير مكتوبة دستورياً، ولا مقننة في تشريعات البرلمان. فهذه «الصلاحيات» محل التقدير والاعتبار من قبل الكافة، ومن قبل الأطراف المحلية والإقليمية والمؤسسات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية التي افترضت خطأ أن غزوها للعراق سيمكنها من وضع حوزة النجف في جيبها.
ويزيد من مكانة المرجع الأعلى وجود مقره في الدولة التي تضم مرقد الإمامين علي وابنه الحسين، ومراقد أخرى لأئمة أهل البيت (عليهم السلام).
ولا شك أن متبنيات آية الله السيد علي السيستاني كانت ولا زالت حاسمة في المسار الذي سلكه العراق. سواء لجهة عدم مواجهة الاحتلال الأميركي بالسلاح، أو لصوب كتابة الدستور بأيد عراقية، أو لناحية تشكيل جبهة مقاومة مضادة لـ«داعش» تحت مسمى الحشد الشعبي، أو حتى لجهة الإطاحة برئيس الوزراء السابق نوري المالكي واختيار حيدر العبادي بدلاً منه. في كل ذلك، بصمات آية الله السيستاني كانت حاضرة.
ويلعب الظرف السياسي الاستثنائي للعراق، والمكانة التي تحظى بها حوزة النجف، وشخصية السيد السيستاني، وطبيعة فهمه لدور المرجعية والعراق، إضافة إلى تعقيدات الإقليم والتشابكات الدولية تأثيرات متباينة في الخلاصات التي تنتهي إليها قرارات وتوجيهات السيد السيستاني وفتاويه.
إن النقد التقليدي الذي نسمعه في بعض أرجاء حوزة النجف والموجه للنموذج الإيراني بشأن تدخل الفقيه في السياسة، لا يغيّر من حرص السيد السيستاني على الإدلاء برأيه على الدوام في المشهد المتحرك، بل والتدخل بفتواه إذا رأى أن الحاجة تقتضي ذلك.
ويحرص الساسة العراقيون الشيعة والسنة والأكراد على لقاء السيد «القائد» إذاً في هذه الحالة، كما يُسمى المرشد الإيراني. وربما ليس سراً القول، إن خطب الجمعة لممثل السيد السيستاني تناقش في مجلس الوزراء العراقي.
وفي ظني، لا يحتاج نموذج ولاية الفقيه على الطريقة العراقية إلى تقنين، فذلك يرهق المرجع والدولة. وعلى الأرجح، فإنه كلما ترسخت مؤسسات الدولة، وتبلور واقع متين لتشكيل الحكومة والإطاحة بها سلمياً ودورياً عبر الانتخابات، كانت الحاجة أقل إلى تدخل المرجع. ولذا، علينا توقع أن يدوم إلى سنوات تدخّل مرجعية النجف في الشأن السياسي العراقي.
السعودية: تحالف «العلمانيين» والدينيين
تُسمي السعودية النصوص التي تنظم سلطات الحكم «النظام الأساسي للحكم». لا تسميه دستوراً، فدستورها – كما تقول – «كتاب الله تعالى وسنة رسوله».
ويمنح وجود مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة مكانة دينية خاصة للسعودية في ذهنية الرأي العام الإسلامي. ويحمل الملك السعودي لقب «خادم الحرمين الشريفين»، وتدعي العائلة الحاكمة أنها تحكم باسم كتاب الله. وتتحالف مع نموذج إسلامي محافظ، أسسه الشيخ محمد بن عبد الوهاب. لكن نظامها الأساسي ينص على أن «نظام الحكم في المملكة العربية السعودية، ملكي. ويكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود»، ويصعب نسبة تلك الأمثولة للإسلام، فالقرآن الكريم والسنة الشريفة لا تحيلان الحكم إلى ملك عضوض.
من هنا، يدور الحديث عن حكام آل سعود العلمانيين الذي يتحالفون مع الدينيين المحافظين.
وطالما برز النقاش إزاء قدرة آل سعود على تسيير مشايخ الدين. لكن ذلك لم يكن بالمجان، فمقابل ترك ميدان السياسية لملوك آل سعود، فقد بنى مشايخ نجد بأموال النفط والغطاء الرسمي للدولة، نفوذاً وهابياً/ سعودياً هائلاً، وأطراً يصعب الفكاك منها، في داخل السعودية، لكن أكثر في خارجها.
الكثير من الظواهر «الداعشية» تراها سائدة في السعودية، في مؤسساتها وقوانينها ومحاكمها ومناهجها التعليمية وتطبيقات الحدود. وربما يعكس التعاطي مع المرأة، والقوانين واللوائح والممارسات المتصلة بالمواطنات السعوديات والنساء المقيمات في المملكة، أبرز أوجه ملامح النفوذ الوهابي في السعودية. ولذا، فإن حجم المقاومة لقيادة المرأة للسيارة – مثلاً – كبير للغاية، وربما يكون ذلك آخر حصن للوهابيين المتعصبين. بيد أن المسيرة لم تكن هيّنة كي يفرض آل سعود إيقاعهم على مشايخ نجد، الذين يرضعون من أفكار محمد بن عبد الوهاب التكفيرية والمتزمتة.
وقد حدث أكثر من صدام بين المؤسسة الدينية الوهابية والمؤسسة السياسية السعودية، لعل أشهرها وأكثرها حدة موقعة السبلة في ١٩٢٩، حين أراد ابن سعود الالتزام بالحدود مع العراق والأردن والكويت التي رسمها الانجليز، وتجميد الغزوات الداخلية بعد أن استتب له الأمر على مساحات شاسعة من شبه الجزيرة العربية، فيما أراد المسلحون الوهابيون – الذين كانوا يسمون الإخوان – المضي في الغزوات خارجياً وداخلياً، بتبريرات دينية وأخرى ذات صلة بطبيعة السلوك البدوي ـ حينها ـ حيث الغزو أداة للنهب والنهب المضاد. والحادثة البارزة التالية في الصدام بين آل سعود والوهابيين تتمثل في احتلال جهيمان العتيبي الحرم المكي في عام ١٩٧٩. وقد تحالفت الوهابية السعودية طوال عقد الثمانينيات من القرن الماضي مع الولايات المتحدة، وأنتجت تنظيم القاعدة، التي اصطدمت بالثنائي السعودي والأميركي، على خلفية افتاء مشايخ نجد بجواز التواجد العسكري الغربي على «أرض الحرمين»، والاستعانة بهم لتحرير دولة الكويت من غزو صدام حسين.
ومنذ حرب أفغانستان، بات النموذج السلفي الوهابي المسيّس عابراً للقارات، منتجاً لنسخ من الوهابيات، لا تكاد تسحق واحدة إلا وانبلجت أخرى… وعلينا توقع نسخة أخرى جديدة بعد اندحار «داعش».
وطالما حرص آل سعود على الحد من نفوذ المؤسسة الدينية. ولعل أبرز ملامح ذلك، إقصاء الدينيين من إدارة الجهاز الإعلامي الضخم، إلا باستثناءات لا تغيّر من حقيقة تحكم ما يسمى في السعودية بالليبراليين – وما هم كذلك – على جهاز الإعلام المتضخم والنافذ. وعادة ما يدير غير المتدينين قنوات «إن بي سي» العملاقة بالمقاييس العربية وشبكات الصحف والمواقع الإلكترونية ومراكز الدراسات والتأثير الممولة سعودياً، وهذا لا يمنع وجود مساحة للدينيين في بعض القنوات، لكن مساحتهم الرئيسية في المساجد التي تنتشر في كل زاوية في السعودية، والإعلام غير الديني يستثمر لمواجهة المساجد المتشددة. وفي ظني، إن السماح لصوت عاقل ومعتدل مثل الشيخ حسن فرحان المالكي يأتي أيضاً ضمن المحاولات الرسمية للحد من تغلغل الوهابيين.
ومع ذلك، وفي المعركة ضد قطر مثلاً، يتقن آل سعود استعمال مشايخ نجد والنخبة النجدية غير المتدينة في مجال الإعلام والفكر للنيل من الدوحة.
وبالمناسبة، فإن أحد أسباب الغضب السعودي من الدوحة، هو المحاولات القطرية الدؤوبة للاستحواذ على الوهابية والتمدد في أوساط النخبة النجدية. وخير دليل على ذلك مثالين معروفين: ١. انتساب عائلة آل ثاني لابن عبد الوهاب، ٢. بناء قطر أكبر جامع في الدوحة باسم مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب، افتتح في ٢٠١١. فالدوحة لم تستتبع الإخوان فقط، فتأثيراتها على الوهابيين ليست قليلة.
وإذا كانت شرعية السعودية تقوم على حد السيف والبعد الديني الوهابي فإن شرعية الحكم في البحرين تقوم كلياً على حد السيف. ورغم المحاولات بوضع كلمة أمير المؤمنين في دستور مملكة البحرين لعام ٢٠٠٢، فإن ذلك لم يكن مستساغاً، فلم يستند الحكم تاريخياً على تبريرات دينية، كما لا يتم تداول مصطلح ولي الأمر إلا استثناء.
لقد أمّن التحالف بين آل سعود «العلمانيين» والإسلاميين الوهابيين قدراً من الاستقرار في طبقة الحكم في نجد. وانفصال عرى هذا التحالف قد يضعضع الطبقة الحاكمة ويشتت جمهورها النجدي. على أن الغائب الأكبر في التجربة السعودية هو دور المواطن في اتخاذ القرار، وهو أمر يتنافى والدين وقيم السياسة الحديثة.
جدلية الدين والسياسة في حركات الربيع العربي
في ٢٠١١، ساهمت الفصائل الإسلامية في قيادة التحركات السياسية في البحرين، والإمارات، وشرق السعودية، والكويت. لكن الملفت أن معظم هذه الحركات نادى بالتحول نحو الديمقراطية وإصلاح شؤون الحكم، ولم يتبن الدعوة لقيام حكم إسلامي وتطبيق الحدود. فمثلاً في البحرين، فإن الدعوات التي قادها الإسلام السياسي الشيعي تحدثت إما عن تأسيس نظام جمهوري ديمقراطي، أو ملكية دستورية تنشئ حكومة وبرلمان منتخبين، ولم يتبنّ أي من هذه الأحزاب الدعوات لتأسيس نموذج إسلامي. وحتى إبان انخراط جمعية الوفاق الشيعية المعارضة في البرلمان بين ٢٠٠٦ – ٢٠١١، لم تكن الأجندة الدينية التقليدية حاضرة، إلا استثناء. وربما ترك موضوع محاربة ما يسمى بالفساد الأخلاقي للقوى السلفية والإخوانية، التي رفعت مرات هذه الشعار، لكن على الأرجح كتكتيك. فقد تكثفت أولوية الإسلاميين الشيعة حول توسيع صلاحيات المؤسسات المنتخبة، فيما تركزت أولوية الإسلام السني على إهدار هذه الصلاحيات المحدودة أصلاً وتضييقها، على اعتبار أن قيام نظام ديمقراطي في البحرين قد يصب لصالح الأغلبية الشيعية.
حتى في حالة الراحل الشيخ نمر النمر، الذي لا يحسب على تيار الإسلام المعتدل، فإن خطابه تركز على إصلاح النظام السياسي والمساواة والعدالة في السعودية.
صحيح أنه أطلق دعوات سياسية يصفها البعض بالراديكالية، مثل الدعوة لسقوط حكم آل سعود وآل خليفة، وهي دعوات غير معتادة في المنطقة، لكن ليس من بين مطالبه الدعوة لقيام حكم إسلامي شيعي في شرق السعودية.
في الإمارات، قدم الإخوان المسلمون، في بداية الربيع العربي (مارس ٢٠١١) عريضة تطالب بمنح «المجلس الوطني الاتحادي الصلاحيات التشريعية والرقابية الكاملة… وانتخاب جميع أعضائه من قبل كافة المواطنين كما هو مطبق في الدول الديمقراطية حول العالم». ولم يكن ضمن الطلبات أي إشارة للخروقات التي تسجل في دولة الإمارات ضد المظاهر والممارسات والقوانين التي توصف بأنها غير إسلامية. في الكويت أيضاً، ورغم الحريات الأوسع والحضور اللافت للجسم السلفي والإخواني في تحركات ٢٠١١، فإن المطالبات الرئيسية تركزت حول تشكيل حكومة شعبية، بقيادة رئيس وزراء من عامة الشعب، بدلاً من أبناء عائلة الصباح الحاكمة، وليس إقامة حكومة إسلامية. ويتهم البعض الحركات الإسلامية المعتدلة بتبني خطاب علماني، حين تفرّغ خطابها السياسي أو تنأى به عن أي مضمون ذي خصوصية إسلامية.
لكن هذه الحركات تقول إن استحضار الديمقراطية والدولة المدنية والانتخابات من صلب الدين الإسلامي. ويزيدون – فوق ذلك – أن المناداة بتطبيق صارم للدين يتناقض وروح الشريعة. وعلى الأرجح، فإن الحكومات الخليجية والحركات الإسلامية تواجه الإشكالية نفسها بشأن حدود العلاقة الملتبسة بين السياسي والديني. فالإسلاميون – سنة وشيعة – في البحرين والكويت وفي العراق أيضاً يستخدمون النص الديني في الترويج الانتخابي، وكذا تفعل الحكومات حين تقمع معارضيها أو حين تصبغ على الحاكم لقب ولي الأمر واجب الطاعة. وليس بعيداً عن الصواب القول إن كلّاً من العديد من الحكومات والتيارات الإسلامية تقدم المصالح، ثم تبحث عن تخريجة دينية لها، إن اقتضى الأمر.
وتلك ليست الإشكالية الوحيدة التي تجابه الإسلاميين، فمع إخفاق الإخوان المسلمين في مصر وحزب الدعوة في العراق، في تقديم نماذج حاكمة نزيهة وفاعلة ومستقرة، فإن شكوكاً تتزايد إزاء قدرة الإسلاميين المعتدلين في الخليج على القيام بأعباء المعارضة، كما أعباء الحكم.
بيد أن هذا المنظور الناقد لأداء الإسلاميين قد يتجاهل العنف الحكومي الذي يواجه الإسلاميين المعارضين كما في وضع البحرين، أو التحدي السعودي الإماراتي وتغول المؤسسة العسكرية كما يتبدى في حالة مصر إبان حكمها من قبل رئيس إخواني (محمد مرسي)، أو آثار انحلال الدولة العراقية التي أفرزت تجربة معقدة واكبت قيادة حزب الدعوة للحكومة في عراق ما بعد ٢٠٠٣.
في كل التجارب المذكورة (العراق، البحرين، الكويت، مصر)، هل الأداء كان يمكن أن يكون أفضل إذا ما توافرت ظروف أفضل؟ ربما، لكن حتى في هذه الحالة قد يأتي الجواب سلبياً من السودان حيث يقود الإسلام المعتدل منذ عام ١٩٨٩ جمهورية السودان إلى مزيد من التفسخ والضعف، وهذا لا يمنع عمر البشير من إطلاق نداء الله أكبر حين ينفصل جنوب السودان أو يسقط مئات الآلاف في دارفور في حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس.
مع ذلك، من المؤكد أن الإسلام السياسي يواجه تحديات استثنائية سواء كان في المعارضة أو السلطة، وليس الصراع بين الديني والسياسي إلا إحداها.
خاتمة
تعج المنطقة الخليجية بنماذج تفتح الجدل على مصاريعه إزاء خلافية السياسي والديني. وتتمظهر في إيران والعراق والسعودية عينات لتأثيرات وصراعات المصالح والمبادئ والغايات في إدارة المؤسسات الحاكمة ومجابهة تحديات الواقع والتعامل مع الخصوم.
وتواجه هذه الأنظمة تحديات مختلفة إزاء فك الاشتباك بين المقدس والدنيوي. ويبدو دور المواطن ومدى فعاليته في توجيه دفة القرار وتوزيع الثروة حاسماً في ترشيد الصراع بين ما هو من صلب النص وبين اختيارات البشر، في ظل تفسيرات متضاربة لكل من النص الديني والمصالح السياسية.
وعلى الأرجح فإن النظام السعودي، مقارنة بنظامي إيران والعراق، أكثر عرضة للتصدع مع تغييب أي دور للمواطنين في اتخاذ القرار. فبينما تشهد إيران والعراق جدلاً صحياً – يحتاج إلى إنماء – بشأن فعالية الدولة ومؤسساتها الدستورية وتجري فيهما انتخابات دورية، تغيب هذه الممارسات كلياً عن الداخل السعودي.
وعلى صعيد الحركات الإسلامية، فإنها سجلت إخفاقات في تجاربها البرلمانية، تشريعياً ورقابياً، وعلى صعيد المشاركة في الحكومة، وحتى على صعيد المعارضة الميدانية والسياسية، كما في حالة الكويت ومصر والأردن مثلاً.
ويضع ذلك أطروحات الإسلاميين أمام تحدي الصدقية ونجاعة القدرة على مواجهة أسئلة الواقع الملحة. مع ذلك، يبقى الإسلاميون الرقم الصعب في المعادلة، والبديل للقفز على الكرسي أو تصدر واجهة المشهد السياسي إذا ما سنحت الفرصة، لكن نجاحهم في ظل التعقيدات الراهنة والاستهداف الغربي لهم وبطء استجابة الحركيين للمتغيرات، يضع أسئلة جوهرية حول فرص نجاحهم في أي تجربة مقبلة.
إن الشرط لنضج الإسلاميين هو التجربة. ومن دون شك، فإن انعدام الممارسة الحزبية والبرلمانية في معظم دول مجلس التعاون الخليجي لا يتيح للإسلاميين كما لغيرهم أية فرصة لصقل مهاراتهم السياسية واختبار رهاناتهم الأيديولوجية.
لكن لا بد من الإقرار بأن الإسلاميين أظهروا براعة في المناورة السياسية لا تقل عن مناورة الحكومات أحياناً، مما يجدد الجدل حول مدى ارتكاز براغماتيتهم على مقولات النص أو تبدلات الواقع.
إنه في الحقيقة جدل صحي لا ينتهي، ولعل في الارتكاز على البعد الأخلاقي في التعاطي السياسي مدخل مهم للتقليل من الآثار السلبية للممارسات المصلحية التي تغيّب المبادئ والغايات النبيلة للدين والقيم الرسالية والإنسانية.
إن تخليق السياسة (أي جعلها ذات أبعاد أخلاقية ومراعية للفضيلة وحقوق الإنسان والمستضعفين)، وعدم الانجراف في النمط السياسي المكيافيلي، وتفادي تطبيقات «الغاية تبرر الوسيلة»، مدخل يستحق التبصر في المحاولة الدؤوبة لفك الاشتباك بين الديني والسياسي، فكلاهما يسعى لتحقيق مصالح المواطنين.
* كاتب وصحافي من البحرين