abbasbusafwan@gmail.com

كيف نفهم طلب البحرين ترحيل السفير الأميركي …

يبدو مثيرا للدهشة والتساؤل أن يطالب نواب بحرينيون موالون للسلطة، وبدعم من وزارة الخارجية البحرينية، تغيير/ ترحيل (طرد) السفير الأميركي في المنامة توماس كراجيسكي، بالنظر إلى العلاقة الوطيدة التي تربط الولايات المتحدة بالعائلة الحاكمة في البحرين، والإدارة الأميركية التي تعتبر الحكم البحريني حليفا استراتيجيا.
طلب تغيير/ ترحيل السفير أعلنته كتل نيابية موالية للسلطة وبالإجماع (الأصالة، المنبر الأسلامي، المستقلون، البحرين)، في مؤتمر صحافي، عقدته في 27 حزيران/يونيو الماضي، وطالبوا ‘بتغيير السفير الأمريكي بسبب تدخلاته السافرة في الشؤون الداخلية لمملكة البحرين، وأن وجوده غير مرغوب فيه، ورحيله عن البلاد مطلب شعبي’. (تغيب المعارضة عن البرلمان بعد انسحاب كبرى الكتل النيابية ـ الوفاق= 18 مقعدا ـ في فبراير من العام الماضي، احتجاجا على الهجوم الدامي على دوار اللؤلوة، من قبل قوات الجيش والشرطة).
وينظر إلى نواب الأصالة (سلف) والمنبر الإسلامي (إسلاميون سنة) والكتل النيابية الأخرى على أنهم قريبون من وزير الديوان الملكي المتشدد خالد بن أحمد آل خليفة، الذي يعتبر الرجل القوي في البلاد، وليس كما هو شائع ويروج خطأ بأن رئيس الوزراء خليفة بن سلمان آل خليفة هو الرجل القوي في السلطة. (أناقش ذلك بشكل موسع في كتاب يصدر قريبا بعنوان: البحرين: بنية الاستبداد.. وتوازنات النفوذ في العائلة الحاكمة، دراسة في ‘استراتيجية’ انتقال السلطة من رئيس الوزراء إلى الملك).
وأورد ذلك للإشارة إلى تبعية أعضاء مجلس النواب الحالي للسلطة، التي تتحكم بمدخلات البرلمان من خلال هندسة العملية الانتخابية بالنسبة للنواب المنتخب (40 عضوا)، والانفراد بقرار تعيين الغرفة الثانية في البرلمان (مجلس الشورى= 40 عضوا)، ما يشير طبعا إلى أن الذي جمع نواب حكوميون في مؤتمر صحافي، رغم كونهم في إجازة برلمانية، للحديث في موضوع حساس وشائك، وكأنه حدث طارئ يستدعي الاستعجال، هو السلطة نفسها التي تتحكم بمفاصل الحياة العامة، والتي يمكنها الادعاء ـ شكليا ـ أن النواب يعبرون عن وجهة نظرهم، لا عن وجهة نظر السلطة. خلال المؤتمر الصحافي المذكور، دعا النواب إلى منع مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الديمقراطية وحقوق الانسان مايكل بوسنر من الدخول للبحرين، بسبب ‘تدخلاته السافرة’ في الشأن البحريني، ذلك أن بوسنر انتقد ـ أثناء زيارته الخامسة للمنامة في غضون 15 شهرا في يونيو الماضي ـ انتقد أحكاما أدانت عددا من الأطباء، ندد بها العالم، على أي حال، مع أن بوسنر عبر أيضا عن دعمه نظام الحكم، وتفهمه للعديد من الإجراءات الرسمية لحفظ ‘الأمن’.
والملفت أكثر، بل والمثير للدهشة، هو حديث النواب عن الترحيب بسحب قيادة الأسطول الخامس من المنامة والذي تنظر له السلطة البحرينية كأحد دعائم استقرارها في مقابل تهديدات داخلية واضحة، وإيرانية مفترضة. علما بأن البنتاغون، فيما أظن، يبدو أكثر تفهما ودعما ـ مقارنة بوزارة الخارجية الأمريكية ـ للتعسف الرسمي البحريني ضد المحتجين السلميين المطالبين بالديمقراطية. ذلك أن الجنرالات الأميركيين، القابعين في منطقة الجفير حيث موقع الأسطول الخامس، والوثيقي الصلة بالنظام البحريني ـ كلاسيكيا ـ أكثر من الدبلوماسيين القابعين في السفارة، هم على الأرجح مصدر القرار الفعلي، أو المرجح على الأقل، لكيفية التعاطي الأميركي مع الحالة البحرينية، التي يفترض أنها تعري المعايير المزدوجة لواشنطن في التعامل مع تظاهرات الربيع العربي، وبعبارة أقل حدة تكشف مزيدا من التحديات التي تواجهها القوة العظمى مع متغيرات مهمة في العالم العربي، الذي ظل صاخبا على الدوام.
في ذات اليوم الذي عقد فيه النواب ‘القريبون’ من الخط الرسمي مؤتمرا صحافيا مضادا للسفير الأمريكي، أصدرت وزارة الخارجية البحرينية بيانا يدعم ـ بلغة دبلوماسية ـ وجهة نظر النواب، حين يشير (البيان) إلى أنه ‘يتعين على الدبلوماسيين في أدائهم لعملهم، طبقا للمادة (41) من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، أن يتقيدوا بأنظمة وقوانين الدولة المستقبلة كما يتوجب عليهم عدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدولة’.
ويشدد البيان ‘على ما جاء في خطاب الملك حمد بن عيسى آل خليفة، في 24 يونيو 2012، بأن (الأزمة الراهنة) شأن داخلي خاص بشعب البحرين وأن شعبنا قادر على إدارة خلافاته والتحاور بشأنها دون وساطات خارجية’.
هل يمكن أن يصدق أحد أن دولة صغيرة الحجم مثل البحرين، تدين سفير أكبر دولة، في وضح النهار؟! وتتحدث علنا عن ترحيل (طرد) السفير وتغييره؟! وتلوح بسحب تسهيلاتها العسكرية، أو تبدي فتورا بالتمسك بالقاعدة على الأقل، المهمة للأمريكيين، والتي تستخدم للضغط على إيران وحماية إسرائيل وضمان تدفق النفط؟! .
وهل يطرح ذلك علامات أخرى أكثر بروزا على تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، وهو التراجع الذي لم يصل للقاع بعد؟.
الضغط البحريني يأتي مع أن واشنطن لا تتوانى عن دعم السلطة البحرينية علنا، وترفض مناقشة أوضاع البحرين في مجلس الأمن، وفي جلسة خاصة في مجلس حقوق الإنسان، وتمارس الدور نفسه الذي تمارسه روسيا في حماية النظام السوري الدكتاتوري، مع أن الأغلبية في البلدين (البحرين وسوريا) تسعى للديمقراطية.
البحرين الرسمية تريد أكثر من واشنطن وتريد من سفيرها مناصرة القمع علنا ويعكس ذلك النهج البحريني الحاد في التعامل مع المعارضة ـ الموصوفة بالاعتدال عموما ـ ومع الخطاب الغربي الذي لا يتجاوز في نقده للبحرين الإدانة الشفهية التي لا تغير من واقع الأمر شيئا.
كما يعكس ذلك الخيار الأمني الذي ترتكز عليه المعالجات البحرينية لأزمتها الداخلية شبه الدائمة (أكثر من 40 سنة على الأقل)، ولعله يعكس ‘نقص السياسة والسياسيين’ في أطراف الحكم، مع استفراد العسكر والجهاز الأمني بالقرار السياسي، لكنه يعكس أيضا صيغة ‘المبادرة’ التي تريد أن تظهر بها السلطة البحرينية، وكونها في طور الفعل وليس رد الفعل، بيد أنه الفعل العنفي الذي يزيد من صورة غياب الحكمة، ويكرسها.
السلطات في المنامة تنظر إلى السفير الأمريكي الحالي باعتباره خصما ويتبنى ‘مقولات مغلوطة’. لأنه ذكر، في تشرين الاول/نوفمبر 2011، في مجلس الشيوخ، أثناء نقاش يسبق عادة اعتماد سفراء واشنطن في الخارج، ‘أن أحداث فبرابر ومارس 2011، قام بها بحرينيون يعبرون عن رأيهم، ولم نر أي دليل على تحريض إيراني، والحركة الاحتجاجية وليدة البحرين؛ لكننا قلقون من استغلال الإيرانيين لها’.
وبالمناسبة فإن هذه الخلاصة، هي نفسها التي انتهى إليها تقرير لجنة بسيوني، الذي صنف الاحتجاجات البحرينية ضمن الربيع العربي، واعتبرها تحركا سلميا، ولأسباب داخلية.
والهجوم على السفير جاء بعد تأكيده هذا المعنى، في حوار أجرته معه صحيفة ‘الوطن’ القريبة من الديوان الملكي في البحرين، والتي انتقدها السفير الأمريكي، قائلا ‘عندما أقرأ جريدتكم وأرى في بعض أعمدة الرأي والمقالات أن هناك من يصف المعارضين بالصفويين والخونة، هذا أمر مثير ومؤجج’. (أنظر صحيفة الوطن البحرينية، 24 يونيو 2012).
كيف يمكن انتقاد صحيفة السلطة؟ إنه انتقاد لخطاب السلطة التحريضي والاقصائي والعنيف، ما يستدعي توبيخا علنيا للسفير، الذي يتوجب عليه أن يعرف ‘أن الحكم في البحرين شريك (تابع للدقة) لآل سعود؛ وكما لا يجوز نقد السعودية، لا يجوز نقد البحرين’.
السلطة تريد من هذا الهجوم تكرار سنياريو ما حدث مع سفير بريطانيا السابق جيمي بودن، الذي شُن عليه هجوم شبيه، في آذار/مارس 2010، وبنفس الاتهامات، على خلفية اجتماعه مع نواب معارضين، (كما يلتقي مع نواب موالين، مثل أي سفير نشط).
بعد الهجوم الضاري حينها، والحملة الصحافية الحامية ولعدة أيام ضد السفير بودن، رضخت بريطانيا للضغط البحريني، وظل سفيرها محاصرا في مبنى السفارة، حتى انتهاء مدة عمله، حذرا من إجراء لقاءاته المعتادة مع مختلف ألوان الطيف البحريني (أولا)، ولم يتم التمديد له لفترة ثانية (ثانيا)، لكن الأهم (ثالثا) هو أن السفير البريطاني ـ الذي تلاه ـ الحالي إيان ليندزي ‘تعلم’ الدرس، وعرف ما يتوجب عليه قوله وفعله، وبمن يلتقي، وبماذا يصرح.
الهجوم الرسمي على السفير الأمريكي في المنامة، إذا، لا يستهدف طرد السفير كراجيسكي، وأنما يهدف إلى تعطيل انتاجه وشل حركته ومحاصرته في قلعته المحصنة، والزامه بالخطوط الحمراء الرسمية، وعدم التجديد له بعد أن ينهي مهتمه بعد سنتين، والأهم أن السفير الجديد الذي سيُعين بعده في المنامة سيكون نسخة من السفير البريطاني الحالي: حذر ومحافظ، وحريص على توطيد العلاقات بين البلدين الصديقين، وفق المفهوم البحريني.
البحرين تتحرك دبلوماسيا بدعم سعودي، والتي تقول لواشنطن علنا: نحن معكم في الأجندة الخارجية حتى النهاية، لكن الحديث في الشأن الداخلي بما يقوى المجتمع السياسي والمدني، ويشيع مناخ الإصلاح فخط أحمر. وأهلا بدعمكم إذا كان ـ كالعادة ـ مقويا للسلطة وخياراتها الدكتاتورية، كما تفعل واشنظن ولندن حين ترسلان الضابطين المتقاعدين جون تيموني وجون ييتس إلى المنامة ليعلما الشرطة البحرينية (وأغلبها أجانب) كيف ‘تراعي حقوق الانسان’ وهي تقمع العزل.
هل يمكن أن تسحب أمريكا سفيرها؟ وهل يمكن أن يرد السفير الأمريكي؟ الأجوبة على الأرجح بالنفي. بل إن أميركا ردت بعد يومين من تهديد السفير بالطرد، أي في 28 يونيو الماضي، بأن رفضت، مع بريطانيا، التوقيع على بيان وقعته 27 دولة في مجلس حقوق الإنسان، يندد بالانتهاكات ضد المعارضين البحرينيين، ويدعو الحكومة في المنامة لتنفيذ توصيات لجنة بسيوني، التي تدّعي السلطة سعيها لتنفيذها. وتبرر واشنطن عدم توقيعها البيان المذكور كونها تفضل حوارا ‘ثنائيا وخاصا مع الشريك الاستيراتيجي’، كما قال ممثلها في مجلس حقوق الانسان في جنيف.
لكن أمريكا لابد وأنها تعتب على ولي عهد البحرين سلمان بن حمد آل خليفة، وتتساءل عما وراء صمته عن الإساءة لسفيرها.
وطالما عبرت واشنطن عن دعم ولي العهد في مواجهة أقطاب الحكم الأخرين، وتعده حليفها ‘المعتدل’ في طاقم حكومي بحريني متشدد، وربما انتظرت من سلمان موقفا مشابها.
كما تتساءل واشنطن إن كان وزير الخارجية خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة المحسوب على ولي العهد، يعبر عن رأي سلمان بن حمد، حين يصدر بيانا يدين سفير واشنطن، ويتناغم مع رأي المتشددين في المنامة.
فهل صمت ولي العهد تعبير آخر على انزوء ما يسميه البعض تيار ‘الاعتدال’ في السلطة، أم أن ذلك في جوهره انسجام من قبل هذا التيار ـ الهش أصلا ـ مع الخطاب الرسمي، في ظل استمرار ولي العهد والابن البكر للملك بممارسة دور أشبه بكبير مديري العلاقات العامة للنظام الدكتاتوري الذي يقوده والده، حتى لو يستدعي ذلك الاضرار بالعلاقات الاقتصادية التي قيل أن المنامة كسبتها من توقيعها اتفاق التجارة الحرة مع واشنطن، والذي بذل ولي العهد جهدا مشهودا لانجازه.
وأخيرا، صحيح أن أمريكا تنزوي في الشرق الأوسط، لكنها تنزوي أكثر في الحالة البحرينية لأسباب تتعلق بالانتصار ـ أو الرضوخ ـ للنهج السعودي في البحرين، وبدعم واشنطن الكلاسيكي للأنظمة القبلية الحاكمة في المنطقة، ولكن أيضا بسبب عقدة الجيوبوليتك التي تحيط بالبحرين. بيد أن الانزعاج الرسمي البحريني ـ بحسب سيناريو جدير بالاهتمام ـ قد يكون وراءه اعتقاد يتنامى في القصر الملكي بأن الإدارة الأمريكية قد تكون مقبلة على إدارة الظهر للسلطات الحاكمة في البحرين.
وقد قدمت واشنظن مثالا إلى ذلك، حين دعمت ـ في مارس 2011 ـ مبادرة ولي العهد التي سجلت ـ نظريا ـ فرصة لانتقال شبه كامل للسلطة إلى الأغلبية الشعبية، وهي المبادرة التي أجهضها التدخل السعودي حينها.
وتتذكر عائلة آل خليفة الحاكمة، بوجع شديد، كيف تخلى الأمريكيون عن الرئيس العراقي السابق صدام حسين لصالح جماعات لا تختلف في بناها الفكرية عن الأغلبية الشعبية في البحرين، كما تخلت واشنطن عن طغاة آخرين (أبرزهم حسني مبارك) حين شعرت بأن مصالحها قد تتضرر.
ويزيد من مخاوف السلطة البحرينية سيناريوهات غير حاسمة تتحدث عن احتمالات حدوث مصالحة تاريخية بين طهران وواشنطن، شبيهة بالمصالحة التي تمت بين بكين وواشنطن إبان عهد الرئيس الأسبق نيكسون، في سبعينيات القرن الماضي.
ومهما يكن، فإن القلق، بل الغضب، الرسمي البحريني يبدو أبعد من مجرد انتقاد السفير الأمريكي إلى صحيفة موالية، أو توبيخ مساعد وزيرة الخارجية بوسنر للقضاء البحريني (تقرير بسيوني مضى في إداناته أكثر شدة وإيلاما).. إن ذلك الغضب تعبير عصبي، متوتر، حاد، وفاقع لاحتمالات حدوث انعطافة أمريكية ضد السلطة الحاكمة في البحرين، وهو احتمال قد يكون قدومه أسرع من توقعات الكثيرين، ويؤخره عدم جهوزية البديل، وفق النظرة الأمريكية التي يهمها الحفاظ على قادعتها العسكرية أكثر من اهتمامها بهوية الشخص الجالس على كرسي الحكم.

المصدر: كيف نفهم طلب البحرين ترحيل السفير الأميركي …

انشر وشارك

مقالات ذات صلة