abbasbusafwan@gmail.com

البحرين: الطقس الحواري ومحاولات إعادة تأهيل …

لا يمكن القول الآن الا أن حوار ‘العرين’ (المنتجع الفخم الواقع في جنوب البحرين، الذي يجري فيه الحوار بين السلطة والمعارضة)، لا يعكس إلا صورة خاطئة عن النظام الحاكم في المنامة، وعن الاختلاف لا الثورة أو الانتفاضة في البحرين، وعن التباين في الرأي ليس إلا، بين الفرقاء في البلد الصغير المتحاب، الذي مرّ بسحابة صيف، ستنقشع قريبا، بفضل القيادة الحكيمة لجلالة الملك حمد (هل يذكر ذلك بخطاب ما قبل ربيع البحرين الذي انطلق في 14 شباط/فبراير 2011).
ويتطلع المعارضون أكثر من الموالين، كما يظهر من التصريحات العلنية الوفيرة، أن يتدخل ملك البحرين، الذي تنادي قطاعات شعبية عريضة برحيله، لحلحلة بعض المصاعب التي يمر بها الحوار، أو على الأقل، أن يتكرّم الملك (هل يذكر ذلك بالمكرُمات الملكيّة) ويحدد مُمثلا له في هذا الحوار الذي يصوّر على أنه منقذ للبحرين وأهلها مما تمر به من أزمة عميقة، وأكثر من ذلك يتطلع المعارضون أن يُشرّف الملك حمد جلسات الحوار ويترأسها بنفسه، كما فعل رئيسا اليمن عبدربه منصور هادي، ومصر د. محمد مرسي، اللذان ترأسا الحوار في بلديهما، ولكأن المعارضة البحرينية نسيت، أو أرادت أن تنسى، أن هادي ومرسي رئيسان انتجتهما ثورتا البلدين.
قبل أن أفصّل في ذلك، لا بد ألا يفوتني التعليق على كون هذا الحوار، الذي انطلق في فبراير 2013، تزامنا مع الذكرى الثانية لثورة البحرين، يتم على قدر من العلنية المثيرة والمدهشة والمذهلة في آن. إنه يكاد يتم أمام شاشات التلفزيون، وعلى الهواء مباشرة، وكأنك أمام حلقات متتالية من احد برامج تلفزيون الواقع، الذي يُفصل كل صغيرة وكبيرة، بما في ذلك لباس المشاركين ونوع سياراتهم، من دون أن يهمل القضايا الكبرى في هذا الحوار الممسرح.
وإذ يجري هذا الطقس الحواري العلني في دولة ديكتاتورية بامتياز، فمؤكد أن أهدافه يستحيل أن تمت بصلة بالانتقال نحو الديمقراطية، كما توهم نفسها بعض الأطراف المحلية المعارضة.
أن يكون الحوار غير شفاف، فذلك أدعى أن يكون فرصة لحوار في بلد ديكتاتوري! أما على النحو الإشهاري السائر حاليا، فهو ليس إلا جزءا من حملة أشمل للعلاقات العامة التي تكلف الخزانة العامة ملايين الدولارات في أمريكا والغرب والدول العربية.
الإشكال أن الجمعيات المعارضة تمارس دور البطولة في هذا الحوار المسرحي بامتياز، معتقدة أنها أكثر براعة من النظام، وإنها تبغي ‘إحراجه’، مع أن الحوار، وحتى وهو فارغ وسخيف، يجادل على الأقل، بأن سلطة آل خليفة ليست دكتاتورية ودموية، أو على الأقل ليس بقدر الأنظمة التي أسقطتها ثورات الربيع العربي، وبالتالي لا تستحق هذه السلطة (آل خليفة) أن يتم اسقاطها، بل التحاور معها بغية إصلاحها.
سياسيا، السلطة والمعارضة تقولان ان الأخذ والعطاء والاختلاف أمر معتاد في الحوارات الجادة. الاختلاف، هو أن السلطة ترى أن بنية الحوار مؤهلة للانتقال إلى مناقشة جوهر المطالب، فيما المعارضة تعتقد أن هذه البنية غير مؤهلة لذلك، ومازال أمامنا الكثير مما يتوجب إنجازه عن آليات الحوار كي ندخل في صلب المطالب الشعبية، نعم هكذا تبدو الصورة من تصريحات المتحاورين، ولعل وهم المعارضة يمضي مفاخرا بأنهم أبهروا السلطة بأدائهم.
ومع ذلك، فإن أي ‘تنازل’ رسمي لا يغير من أن الطاولة ستظل تحت سيطرة السلطة، وأن قدرة النظام كبيرة جدا على تقديم تنازل ما في الآليات مادامت المعارضة قبلت بالصيغة الأصلية المختلة للحوار.. ودعني أشبه طاولة الحوار التي تحتكرها وتديرها السلطة بأنها دستور 2002 الذي أحال الملك حمد حاكما ديكتاتوريا، إذ مهما تخلت السلطة عن مكاسبها الضخمة فيهما (الطاولة = الدستور)، لا يغير ذلك من كونها (السلطة) ستظل سيدة الملعب.
أما بالنسبة للراعي الغربي، فمادام النظام الحاكم قادرا على احتواء المعارضة واللعب معها أو التلاعب بها فهذا مبعث ارتياح، وإذا تمكنت السلطة من اقناع المعارضة بأنها هي التي تتلاعب بالنظام فذلك أكثر مما يحلم به الغرب، الذي لا يريد في هذه اللحظات فتح جروح أكثر في شرق أوسط هش وموجوع.
والآن، لماذا تشترك المعارضة في هذا الحوار المذل، هل من تفسير واضح، لذلك؟
إذا أضفنا حقيقة إرضاء الغرب، وهو هدف استراتيجي للمعارضة، يكبلها بقدر ـ بل لعله أكثر ـ مما يقدمها للعالم، وهو هدف يمكن تسويقه أحيانا، إضافة إلى هدف إحراج السلطة الذي بات مقولة ممجوجة بسبب فرط اللجوء إليه.. إضافة إلى ذلك، يمكن أن أقدم تفسيرين لدخول المعارضة متاهة مكشوفة:
التفسير الأول، أن هذا الحوار مطلوب فيه أن تقدم المعارضة اعتذارا واضحا وعلنيا لأي شعارات رفعت خلال التظاهرات، واعتبرت مسيئة إلى العائلة الحاكمة، من دون أن يسمى ذلك اعتذارا، بالضرورة، ومثل هذا الاعتذار طلب في اليوم التالي لإعلان حالة الطوارئ في البلاد (اذار/مارس ـ ايار/مايو 2011).
كما يفترض أن تقدم المعارضة الصيغ الواضحة على شرعية حكم عائلة آل خليفة، ومساندتها الملك حمد الذي يواجه محنة كبرى بسبب اتهامه بزج البحرين في العنف الدامي.
ولهذا السبب تجد الجدل يتصاعد حول تمثيل الحكم على طاولة الحوار. وعلى عكس ما يعتقد فإن السلطة تجد في إصرار المعارضة على وجود الملك حمد حول الطاولة تأكيدا على شرعيته الدستورية، والسياسية هذه المرة عبر قبول المعارضة له ملكا قادرا على إخراج الحوار من المأزق الذي دخلته البحرين، إثر إصدار الملك دستور 2002 من طرف واحد، والسياسات البندرية (نسبة إلى تقرير البندر) الإقصائية الذي تبناها الملك حمد نفسه، إضافة إلى مفردات الحل الأمني في قمع انتفاضة 14 فبراير، التي وثق بعض معالمها تقرير بسيوني.
إن ذلك يبدو مهما لشخص الملك الذي نودي بسقوطه على رؤوس الأشهاد، وليس أحسن من المعارضة من يقوم بإعادة الاعتبار للملك. وبالمناسبة، فإنه يبدو لافتا ألا تجد في تصريحات المعارضة على هامش الحوار، شعار ‘تنحى يا خليفة’ (رئيس الوزراء الموجود في منصبه منذ 1971)،، وطبعا لن تجد شعار ‘يسقط حمد’ (الذي يفضله ائتلاف 14 فبراير الشبابي)، الذي تراه الجمعيات المعارضة شعارا تصعيديا.
إن هذا المسار الاعتذاري شرط كي تدرس السلطة إمكان النظر في بعض تطلعات الشعب! التي باتت الجمعيات المعارضة تمحورها أحيانا حول إزاحة وزير العدل عن طاولة الحوار، بسبب عنفه وفرضه إيقاعه على المتحاورين، لا بسبب كونه من الوزراء الذين تلطخت أيديهم بالدماء وهدم المساجد، كما كتب تقرير بسيوني، الذي اعتبر الجهاز القضائي جزءا من ماكينة العنف في البحرين.
التفسير الثاني، أن الحوار الحالي ليس إلا استعراضا مسرحيا، لا يخلو من خفة، فيما النسخة الأصلية للحوار يفترض أنها تتم أو ستتم في السر. ومجددا على الطريقة الفلسطينية الاسرائيلية التي تم توصل فيها إلى تسوية أوسلو في حوار سري، بينما كان الحوار العلني يُعقد بصورة كاريكاتورية أيضا.
لكن لنتذكر، أن الفلسطينيين ‘المعتدلين’ توقفوا منذ سنوات عن مواصلة فكرة الحوار من أجل الحوار، كما يفعل الآن معارضو البحرين ‘المعتدلين’، لكن بعد ماذا؟ بعد أن تم القضاء على القضية الفلسطينية كمسألة احتلال.
ولعلي أكرر هنا ما قلته من حاجة المعارضة في البحرين إلى التفاوض مع النظام الخليفي على طريقة المفاوض السوري مع الإسرائيلي، الذي كان يشترط التوافق على الهدف (الانسحاب من الجولان) ثم يتفاوض في آليات ذلك، وليس النمط العرفاتي (نسبة إلى الزعيم الفلسطيني التاريخي الراحل ياسر عرفات) في التفاوض من أجل التفاوض. ولنتذكر أن سورية لم تُضع الجولان رسميا، وبينما أحال العالم مقولة الأرض مقابل السلام إلى متحف الذكريات. وسأضيف هنا مقترحا جديدا: أن ترسل جمعيات المعارضة البحرينية وفدا للدكتور محمد البرادعي، القائد المصري المرموق، الذي استخدم مهاراته التفاوضية وأعجز نظام مبارك، ولعله قادر على ارباك نظام الإخوان، لعل المعارضة البحرينية تتواضع هذه المرة، وهي في حضرته (عمره 70 عاما)، وتقتنع أن ما تقوم به من حوار بات مؤذيا لها ولجهورها وأهدافها، إلا إذا صح ما يقال بأن المعارضة تريد فعلا إتمام عملية الدوران للخلف U TURN، وصولا إلى خطابها قبيل 14 فبراير 2011.
الأنظمة الدكتاتورية لا تسقطها ولا تخلخلها المظاهرات التقليدية، ولا المباحثات الاستعراضية، ولا الانتخابات المعروفة نتائجها مسبقا، وإن راكم ذلك بعض مما يؤدي للسخط، بيد أن اللحظة الثورية في البحرين، وهي إذ تواجه مفترق طرق، فإن النمط التفاوضي الحالي للمعارضة يصيبها في مقتل، وإذا انتفى الفعل الجماهيري فإنه حتى الطاولة الاستعراضية سيتم إلغاؤها.
لقد فشلت اليد الغليظة في إجهاض الحراك الثوري، ولعل السياسة أقدر في ذلك، كما تفيد تجارب الأمم. كما أن المفاوضات على طريقة البرادعي وإن لم تستطع إزاحة مبارك أو مرسي، فإنها لا تمنحه الشرعية ولا النَفس/ الوقت/ الفرصة/ المؤهلات/ الصدقية للتمدد، إنه يظل تحت الحصار.
في البحرين نظام واقع تحت الحاصر، يضرب أخماسا في أسداس فيما يتوجب عليه فعله للخروج من أزمته الطاحنة، وإذا كانت المعارضة لا تثق في قدرتها على مواجهته فلعلها تسأل عن كيفية ذلك، أما أن تمنحه قبلات للحياة لا تنتهي فذلك ما يجب أن يتوقف، وفورا، خصوصا أن هذا النموذج العرفاتي تم تجريبه على مدى عشر سنوات، وفشل في وقف التغول الخليفي.

المصدر: البحرين: الطقس الحواري ومحاولات إعادة تأهيل …

انشر وشارك

مقالات ذات صلة