abbasbusafwan@gmail.com

لماذا الشيخ الجمري الأكثر احتراما ومكانة عند مختلف الأطراف الوطنية؟

ليس سهلا الإجابة على هذا السؤال في مقال صحفي، سريع الإعداد بطبعه، ولا أريده أن يكون مطولا، فالموضوع متشابك، لكني سأحاول تقديم مقترح للإجابة.

لقد ارتبطت عائلتي بالشيخ الجمري (رحمه الله) منذ عقود. اعتاد أخي الحاج أحمد بوصفوان تبادل الزيارات مع الشيخ أبو جميل. الحاج أحمد (أبو جابر) هو في مقام الأب، فقد توفي الوالد (رحمه الله) وأنا في عمر ثلاث سنوات، وتكفل أخي (أطال عمره) برعايتي وإخوتي.

منذ الطفولة، كنا نرى الشيخ الجمري أسبوعيا في منزلنا، وسط قرية سماهيج، حيث كان يصلي كل ليلة أحد (مساء يوم السبت) في قريتنا، وبعده يتناول طعام العشاء، في الغالب الأعم، في مجلسنا الصغير، وسط عدد محدود من المدعوين، من بينهم من كان ينظر لهم على أنهم رواد العمل الإسلامي في المنطقة، حيث كان أخي أبو جابر أبرزهم.

كان الشيخ، رحمه الله، يقطع مسافة من بني جمرة إلى سماهيج، تستدعي أن يقصر في الصلاة، بأن تكون صلاة العشاء ركعتين، بدل أربع. وقد تحولت الصلاة في وقت لاحق إلى مرة كل أسبوعين، فصار الشيخ يصلي أسبوعا في سماهيج، والأسبوع التالي في الدير، القرية المحاذية لقريتي، والتي تضم كثافة سكانية أعلى.

لقد كان مثيرا للتساؤل لصبي مثلي أن لا يرى الحضور واسعا خلف الشيخ المعروف؟ القادم من مسافة بعيدة؟! لم يكن أحد يود الإجابة! لكن ذلك لم يجعل الشيخ يتردد في أن يرتاد الصلاة أسبوعيا. ولست متأكدا إن كان أحد أسباب الإقبال المتواضع على الصلاة خلف الجمري في منطقتنا يعود إلى أن الشيخ كان قد أصدر حكما في نزاع محلي، أدى إلى إرضاء البعض وسخط الآخرين (لا يمكن لحكم قضائي أن يرضي الخصوم!).

أظن أني كنت سمعت شيئا من ذلك، لكن المؤكد أن كون الشيخ كان قاضيا في المحاكم الشرعية الجعفرية كان محلا للجدل، في ظل علاقة غير ودية أو متوترة بين القطاعات الشعبية، ومؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسات الدينية مثل الأوقاف والقضاء الجعفريين.

كان عدد المصلين خلف الشيخ في قرية الدير أكبر نسبيا، وقد تحسنت شعبية الشيخ في منطقتنا، مع مرور الوقت، خصوصا بعد إقالته من سلك القضاء في 1988، على خلفية ما كان يعتقد أنها نشاطات سياسية، أدت حينها إلى سجن ابنه البكر محمد جميل لمدة تزيد على 10 سنوات، وزوج ابنته عبدالجليل خليل، لمدة تزيد على 7 سنوات.

واضح أن الشيخ كان متقدم على جيله في عدة نواح، فقد كان عضوا في المجلس الوطني، ثم في المجلس الوطني، وانخرط في سلك القضاء في 1977، وإلى هنا قد يكون الأمر عاديا، لكن الأمر غير العادي هو احتفاظ الجمري، طوال أكثر من عشرات سنوات من عمله القضائي، بمواقفه السياسية المطالبة بالإصلاح، والتزامه خطا إسلاميا حركيا، وهو أمر نكاد لا نراه عند الآخرين. ومثلا، فقد اختار سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم (حفظه الله) الابتعاد عن مؤسسات الدولة، وكذا السيد أحمد الغريفي (رحمه الله)، فيما تحول كل من الشيخ منصور الستري والشيخ أحمد العصفور (رحمهما الله) إلى جزء من المؤسسة الرسمية، وتوجهاتها، بمجرد، وربما حتى قبل، انخراطهما في سلك القضاء، مع الفارق بين الرجلين، خصوصا لجهة الامتدادات، التي تبدو واسعة بالنسبة للشيخ العصفور، لكنها غاية في الأهمية بالنسبة للنظام لجهة الشيخ الستري، الذي كان يقطن أكبر جزيرة منكوبة في البلاد (سترة).

لقد تحدث الجمري مرة في مجلسنا، عن إن رئيس المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية، وزير العدل السابق الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة، قد سأل الشيخ الجمري: ماذا لو تم تكليفك برئاسة الأوقاف الجعفرية؟ فأجابه الجمري: سأحاول استثمار المال لإنشاء مؤسسات خدمية لصالح المواطنين، والمحتاجين. ويكمل الشيخ ضاحكا، وطبعا تم تعيين غيري، لأنهم لا يريدون فكرا حركيا.

في مطلع التسعينات، احتضن الشيخ الجمري الحركة الدستورية، وقادها بطريقة تبعث على الإعجاب، فحوّل النخبة والقطاعات الشعبية التائهة سياسيا إلى خط وطني دستوري، جامع للشيعة والسنة، والإسلاميين واليساريين، فقاد تشكيل لجنة العريضة التي تضم كل ألوان الطيف الوطني، وقاد رسم خطها المبادر والجريء والعقلاني والمعتدل.

إن جهدا كهذا سيظل بحاجة إلى قراءة جديدة، وهو بدون لا شك يعد تفكيرا متقدما عقودا، عن رؤى بالية تعشعش في رؤوس ماضوية، ترى في الآخر عدوا، لا شريكا في الوطن، وفي الحركة صداما مع السلطة، لا إصلاحا، أو لا تأخذ بالاعتبار المعطيات على الأرض وتطالب بتغيير لم يكن متصورا.

ومع ذلك، لا بأس من القول بأن الشيخ الجمري وزملاءه في “لجنة المبادرة” كان لهم تقدير خاطئ، حين وقعوا وثيقة يشيرون فيها إلى الاعتذار إلى السلطات إذا ما بدر منهم شيء (1996)، وكانت الوثيقة جزء من مبادرة تم الاتفاق عليها في السجن بين الشيخ الجمري وزملاءه المعتقلين، وبين إيان هندرسون، المستشار البريطاني السابق، الذي كان يقود جهاز أمن الدولة.

المبادرة كانت تقضي بقيام القادة الشعبيين بتهدئة الشارع، على أن يعقب ذلك حوار سياسي حول إعادة العمل بتفعيل الحياة الدستورية المعطلة وقتذاك.

 وقد سربت السلطات هذه الوثيقة، لضرب مصداقية الشيخ الجمري، وإنهاء المبادرة المتفق عليها، لكن الملفت أن الجمري وشركاءه، تمكنوا من احتواء الموقف، ونجحوا بجدارة من الاحتفاظ بثقة الجمهور، ولذا أعيد اعتقالهم.

الخطأ الآخر، الذي ارتكبه الشيخ الجمري، كان الاعتذار العلني، وأمام شاشات التلفزيون، الذي قدمه لرؤوس النظام (1999)، بعد ضغوط خانقة تعرض لها في السجن.

وموقف كهذا كان كفيلا بسحق أي شخصية سياسية، لكن الناس ظلوا يبحثون عن أعذار للشيخ الجليل والمضحي، فيما ظل هو ملتزم مطالبهم، حتى وهو رهن الإقامة الجبرية، واستمر بالفعل قائدا للحركة الإصلاحية، التي ساهمت في بلورة مشروع الميثاق (2001)، الذي أطاح به الملك حمد لاحقا.

لا أريد أن استفيض أكثر، لكن لا بد من الإشارة إلى أن الشيخ الجمري يمكن أن تراه في كل مكان فيه فائدة للوطن: في الحد، في الرفاع، في المحرق، في المنامة، في كل المناطق الشيعية والسنية، ومع مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتأكيد فإن مستشاريه من كل ألوان الطيف الوطني.

وأظن أن خلاصات عدة يمكن أن يخرج بها القارئ لحياة الجمري الزاخرة، أشير إلى واحدة منها فقط، هو أن الناس لا تطالب بقائد معصوم عن الخطأ، لا يتحرك كي لا يخطئ، وإنما قائد مثلها: يصيب وقد يخطئ، صادق معها، مواكب لتطلعاتها، قادر على بلورة أحلامها في مشروع عملي.

لعل ذلك يبدو كافيا لتبرير المكانة الرفيعة التي يحظى بها الجمري في أوساط مختلف الأطراف السياسية في البلاد، لكن هناك الكثير غير ذلك، لعلي أستفيض عنها في وقت جديد.

المصدر: لماذا الشيخ الجمري الأكثر احتراما ومكانة عند مختلف الأطراف الوطنية؟

انشر وشارك

مقالات ذات صلة