abbasbusafwan@gmail.com

الفصل الخامس : البحرين 2014: السنياريوهات المحتملة للتسوية

مقدمة

يمثل العام ٢٠١٤ محطة مهمة في احتمالات إيجاد حلول تسووية للمسألة البحرينية، التي بدت “مستعصية!” من جهة، لكنها في الواقع مؤجلة، حتى لا أقول منسية، في ظل عالم يعتقد أن الحدث السوري، وأحداث أخرى، لها الأولوية والصدارة.

والحدث البحريني مؤجل كون السعودية، الراعي “الرسمي” للحكم الخليفي، قدمت الكثير من الجَزر والعصا للولايات المتحدة وبريطانيا، كي تحمي نفسها، وخاصرتها الشرقية (البحرين) من السقوط أمام ربيع بحريني غير مسبوق، بعد أن كادت تفقد عمقها الجنوبي (اليمن)، لو لا أنها تمكنت من لجم التغيير وتشويهه في صنعاء.

والمؤكد أن السعودية لم تعد تملك كل أوراق اللعبة في القاهرة وتونس، كما كانت، فيما هي تكابد من أجل موطيء قدم لها في دمشق، في ظل عقيدة صارمة: أمتلك دمشق أو أحرقها، وهي العقيدة ذاتها التي تبنتها الرياض في علاقتها مع عراق ما بعد صدام حسين، الذي كاد أن يقضي عليه المُفخخون الممولون سعوديا.

ولعل سيناريو التدمير مرجّح في البحرين في حال وصلت أغلبية معارضة (شيعيّة عادة) إلى سدة القرار السياسي، وسيكون استبعاد خروج “زرقاوي” بحريني ضرب من خيال، وفي هذه الحالة أيضا، فإن الشعار السعودي (والخليفي هذه المرة) سيظل ساريا: أمتلك البحرين أو أحرقها.

وفي الواقع، فإن السلطة البحرينية لوحت بسيناريو الحرب الأهلية، إبان شهري فبراير ومارس ٢٠١١، وأجرت بروفات عدة لذلك، وأشاعت وجود شرخ بين الشيعة والسنة، يمكن أن ينفجر عنفا في حال مضت الديمقراطية إلى منتهاها، وتحولت الغالبية الشيعيّة طرفا رئيسا في الحكم.

ومع ذلك، قد يبدو العام ٢٠١٤ محطة محتملة لتسوية ما في البحرين، وأرجح بأنه يتم التخطيط والسعي لذلك من قبل جهات عدة، تشمل مختلف الأطراف المحلية والاقليمية والدولية المعنية بالمسألة البحرينية: أميركا وبريطانيا، إيران والسعودية، والأطراف المتنازعة داخليا: العائلة الحاكمة ومواليها، والجمعيات السياسية المعارضة.

ولست متأكدا أن الجماعات الموالية، خصوصا السنيّة منها، ستكون مرتاحة لأي تسوية رصينة/ عادلة ومحقّة، وهي التي اعتبرت أي تقارب خليفي ـ شيعي يضر بمصالحها(1)، وقد أتقنت بعض أطرافها ـ ويشمل ذلك بعض الفاعلين في جمعيتي المنبر الإسلامي (الإخوان المسلمين) والأصالة (السلف) ـ أدوارا يعتبرها البعض تحريضية، وليست فقط انتهازية، لزيادة الاحتقان الخليفي ـ المعارض.

إن تسوية ما في ٢٠١٤ تبدو سيناريو قائما حتى بالنظر إلى عدم   احتمالات إنجاز تسوية تاريخية في الحالة السورية، وحتى مع عدم اتضاح نهاية للصراع الإيراني الغربي الساخن، الممتد من نيف وثلاثين عاما، ذلك أن العام ٢٠١٤ يرتبط ـ أساسا ـ باستحقاق بحريني داخلي، إذ ستشهد المنامة انتخابات للمجلس النيابي، هي الرابعة منذ أعيد الاعتبار لهذه الانتخابات في ٢٠٠٢، بعد غياب قسري منذ العام ١٩٧٥، حين حُل أول مجلس كان انتخب في ١٩٧٣، شكل حينها حدثا تاريخيا، سرعان ما انكسر تحت وطأة الرغبة الدكتاتورية المتأصلة عند العائلة الحاكمة.

وقد غذت تلك الرغبة اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي اندلعت في ابريل ١٩٧٥، أي قبل نحو أربعة أشهر من حل المجلس الوطني في البحرين (أغسطس ١٩٧٥)، وما تبعه من قرار دولي بتحويل المنامة إلى مقر للمال السعودي، والمال العابر للقارات.

وجاءت ثورة إيران الإسلامية بعد نحو أربعة أعوام من ذلك (فبراير ١٩٧٩)، لتؤكد الحاجة إلى بحرين ضمن النفوذ الغربي، رغم أن لا دلائل بأن برلمان منتخب، على الطريقة الكويتية، كان سيحول مسار أرض دلمون (تسمية تاريخية لجزر البحرين الصغيرة)، إلى معسكر معاد لواشنطن ولندن.

إن انتخابات 2014 يمكن أن تشكل فرصة ثمينة للسلطة الحاكمة، لكن أيضا للدول الغربية الحليفة للعائلة الخليفية الحاكمة، لإنجاز شيء ما لاستمالة المعارضة المعتدلة والإصلاحية التي سبق لها وشاركت في الانتخابات النيابية ٢٠٠٦ و٢٠١٠، بعد أن قاطعته في ٢٠٠٢ احتجاجا على إصدار دستور مملكة البحرين (2002) الذي قضى على الشكل الصوتي (من صوت) للديمقراطية، وفق صيغة دستور دولة البحرين (1973).

وبحسب الدستور السابق فإن المؤسسة التشريعية تتشكل من ثلثين بالانتخاب، وثلث بالتعيين هم الوزراء بحكم مناصبهم، فيما يتشكل البرلمان وفق صيغة الدستور الجديد مناصفة بين المنتخبين والمعينين، ما يلغي أي سلطة تشريعية للإرادة الشعبية.

أما تشكيل الحكومة في الدستورين، فتبدو وكأنها حق مطلق عند رأس الدولة، حتى مع افتراض أن النص الدستوري لا يلزم أن يكون رئيس الوزراء من العائلة الحاكمة، بمعنى أنه ونظريا يمكن للملك اختيار رئيس وزراء من غير أفراد أسرته، بيد أن ذلك يبدو في غير حاجة إلى تفنيد، في ظل استحواذ خليفي كامل على القرار السياسي والثروة القومية، وشغل المناصب العامة “السيادية” وغير السيادية، بل وتكاد الدولة تتماهى والقبيلة الحاكمة، يجعل الملك يحبذ تسمية البحرين بـ “المملكة الخليفية”، ولعله يتمنى تسميتها بذلك رسميا.

لماذا العام ٢٠١٤؟

لا تجد السلطة والمعارضة نفسيهما في عجلة من أمرهما، وقد لاحظ مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشئون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل مايكل بوسنر ـ في أغسطس 2012 ـ “أن كلاًّ من الحكومة والمعارضة السياسية يريان أن الوقت لايزال في صالحهما”(2).

ذلك لا يعني أن المبادرات السياسية ستكون معدومة، بل سترمي أطراف عدة، بين الفينة والأخرى، ورقة لجس نبض الفرقاء، وقياس مدى تمترسهم حول مواقفهم.

وفيما يخص السطة، فإنها ستجد في العام حتى 2014 فرصة سانحة لمحاولة احتواء الحراك المطلبي وفق “صيغة سياسية” هذه المرة، ضمن استيراتيجية أمنية أوسع، لأسباب عدة نوضحها تباعا.

في الشكل، فإن السلطة لا تفضل حل البرلمان الحالي، المنتخب في أكتوبر 2010، والذي استقالت منه كتلة الوفاق المعارضة (18 مقعدا من أصل 40) في فبراير 2011، انحيازا منها لانتفاضة 14 فبراير، وتعبيرا عن استنكارها للهجوم الدامي على دوار اللؤلؤة فجر السابع عشر من فبراير، بُعيد ساعات من اعتذار الملك البحريني عن قتل شابين في 14 و15 فبراير (2011) على يد قوات الأمن، التي تتشكل في غالبها من عناصر أجنبية من باكستان واليمن وسوريا والأردن.

وتطرح مسألة حل البرلمان حين الحديث عن الحل في البحرين، لأن أي تسوية سياسية ستليها بالضرورة انتخابات نيابية يفترض أن تشارك فيها الوفاق وعموم المعارضة الرسمية/ المرخصة.

ولما كان البرلمان الحالي مكتمل العدد، بعد إجراء انتخابات تكميلية في سبتمبر 2011 لملء مقاعد الوفاق الشاغرة(3)، فإن حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة لافساح المجال للمعارضة للمشاركة في برلمان جديد، تعده بعض الجهات السياسية الرسمية رضوخ للضغوط، وكأن ذلك يؤكد إشكالية كون البرلمان لا يكتمل ولا يحظى بالشرعية إلا بوجود المعارضة، الشيعية منها تحديدا، وهي إشكالية لا تريد السلطات تكريسها أكثر كحقيقة سياسية، بعد أن عانت من مفاعليها إبان الفصل التشريعي الأول (2002ـ 2006)، حين كانت الوفاق وعموم المعارضة مقاطعة للانتخابات وما أفرزته من برلمان.

وفي بعد آخر، فقد كرر الملك مرارا بأنه لن يلجأ إلى حل البرلمان، كما فعل والده في 1975، لكنه يقصد في الواقع أن وجود الغرفة  المعينة (الشورى) ضمن المؤسسة التشريعية صمام أمان لعدم تخطي الغرفة المنتخبة (النواب) للخطوط المرسومة لها.

ورغم أن حل البرلمان يبدو نقطة ثانوية للغاية، مقارنة بجوهر التسوية المطلوبة، فإن بعض أطراف السلطة تتمسك بما تسميه “هيبة الحكم”، ولا تريد منح المعارضة نصرا مهما كان شكليا بحل البرلمان الحالي.

ومع ذلك، يبقى حل البرلمان مسألة هامشية. والأمر الذي أعاق إجراء انتخابات نيابية جديدة بُعيد التغييرات الدستورية التي أعلنها الملك حمد في مايو ٢٠١٢، كما هو منطق الأمور، أن تلك التغييرات بدت ثانوية وهشة، ولم تلق صدى محليا ودوليا(4)، ولم يكن لأي انتخابات نيابية معنى لو أجريت بعدها، لأن المعارضة ستقاطعها لرفضها التغييرات المعلنة، وسيتأكد أكثر أن الإشكالية الدستورية مازالت مستعصية، وهي كذلك فعلا.

وتقول السلطة أن تعديلات الدستور بنيت على “حوار التوافق الوطني”، الذي أجري في يوليو 2011، والذي وصفه وزير الخارجية السويدي بأنه أشبه بمونولوج حكومي، ورفضت نتائجه جمعيات التحالف السداسي المعارض: جمعيتا الوفاق وأمل (إسلاميون شيعة)، وعد (يسار)، التجمع القومي (بعث)، الإخاء (إسلاميون شيعة من أصول إيرانية)، التجمع الوحدوي (ناصري)، إضافة إلي جمعية المنبر التقدمي (شيوعيون) التي انسحبت ـ تحت ضغط السلطة ـ من التحالف المعارض الذي كان سباعيا إبان اعتصامات دوار اللؤلؤة (فبرايرـ مارس 2011).

إلى ذلك، فإن الحوارات غير المقننة التي تُجرى بين حين وآخر بين وزير العدل خالد بن علي آل خليفة وأطراف أخرى في السلطة والجماعات المعارضة، تؤدي للطرفين غرض العلاقات العامة وشراء الوقت وإدارة الأزمة، إضافة إلى قيام السلطة بسبر أغوار المعارضين والأرضية التي يقفون عليها ومدى التغير في مواقفهم، كما يتحقق غرض الاستكشاف للمعارضة أيضا التي يهمها أن تفهم ـ باستمرار ـ خطط وخيارات الحكم للخروج من عنق الزجاجة.

وتفترض بعض أطراف السلطة أنه قد يأتي عام ٢٠١٤، وقد تقلص هامش المناورة عند المعارضة وشارعها الذي مازال يتسم أداءه بالحماس والصمود أمام بطش السلطة.

ووفق تقديرات هذه الأطراف، فإنه مع مرور مزيد من الوقت، وتحت وطأة النهج الأمني سيتضح للجمعيات المعارضة عدم القدرة على تحقيق انجاز تاريخي من خلال المعادلات المحلية والإقليمية والدولية القائمة.

وبالفعل، فقد تخلت الجمعيات المعارضة عن عدد من الشروط التي تقدمت بها للتعاطي مع مبادرة حوار أعلنها ولي العهد سلمان بن حمد آل خليفة في 12 مارس ٢٠١١(5)، ولم تعد تتمسك بطلبها إقالة الحكومة الحالية التي يترأسها خليفة بن سلمان آل خليفة (عم الملك) منذ أكثر من أربعين عاما، وانتخاب مجلس تأسيسي لكتابة الدستور. ومنذ استعادة السلطات دوار اللؤلؤة (ميدان التحرير البحريني)، ما انفكت المعارضة ترحب بحوار دون شروط مسبقة، وهي تستجيب ـ عادة ـ لأي دعوة بالهاتف لاجراء حوارات فضفاضة.

وتأمل السلطة استمرار تخلي المعارضة عن جملة من تطلعاتها، كما تعول على تكرار سيناريو قلة الخيارات وضعف الحيلة التي اتسم بها الأداء المعارض في الفترة التي تلت مقاطعة انتخابات ٢٠٠٢، ليتكرر مشهد شبيه مع اقتراب انتخابات ٢٠١٤.

وحتى ذلك الحين، سيظل الحل الأمني سائدا، والذي يعني استمرار انتهاكات حقوق الإنسان، والتعذيب والسجن والقتل خارج القانون، والفصل التعسفي، إضافة إلى استمرار الحرمان من التوظيف، وزيادة وتيرة عمليات التجنيس السياسي المرعبة للمعارضة، كونها تبدل موازين القوى الشعبية ـ إذا ما استمر المعدل الحالي في التغيير الديمغرافي ـ وتحول المواطنين الأصليين (سنة وشيعة) إلى رقم غير حاسم في المعادلة الوطنية.

كما سيتواصل مسلسل التمييز الطائفي الذي تزايدت وتيرته على نحو مريع منذ انطلاق 14 فبراير، فمن بين 198 مرسوما ملكيا وقرارا وزاريا نشرت في الجريدة الرسمية، وتم بموجبها تعيين 296 مسؤولا في مواقع قيادية، جاء نصيب المواطنين الشيعة 42 موقعا، بنسبة 14٪ من مجمل التعيينات، وذلك حسب تقرير أعدته جمعية الوفاق عن الفترة بين 14 فبراير 2011 و15 أغسطس 2012(6).

وفي الواقع، فإن مسلسل التمييز الطائفي ازدادت حدته إبان حكم الملك حمد، الذي أراد أن يمدد تجربته في تأسيس الجيش البحريني خاليا من المواطنين الشيعة(7)، يمددها لتشمل كل مؤسسات الدولة الخدمية، فضلا عن المضي في محاصرة الطائفة الشيعية عبر إجراءت ممنهجة كشفها المستشار السابق في الديوان الملكي صلاح النبدر(8). لذا أعتقد جازما أن الملك حمد مسئول عن الأزمة التي تعيشها البحرين حاليا، وليس عمه رئيس الوزراء، كما يردد الإعلام الدولي(9).

وأمام هذا الوضع، لجأت المعارضة إلى خيار الحراك السلمي والصمود أمام البطش الرسمي، وتقليل الصدام مع الأمن، ورصد انتهاكات حقوق الإنسان، والقيام بالحملات الإعلامية، والتواصل مع بعض أطراف المجتمع الدولي (تحديدا أميركا وبريطاينا ولا تجد المعارضة الوقت مناسبا للتواصل مع الروس مثلا!) للتأكيد على أن البحرين تعيش أزمة سياسية مستمرة.. معولة على أنها تسير في المسار الصحيح من التاريخ، فيما تاريخ النضال الوطني وعمره يربو على مئة عام لم يسجل أن رفعت المعارضة الراية البيضاء، وإن طبّعت من وضع قائم وساومته.

سيناريوهات التسوية

أفضل الخيارات لاستقرار البحرين أن تتحول إلى النظام الديمقراطي على الطريقة الغربية! وأن يحسم الصراع السياسي فيها عبر صناديق الاقتراع.

لكن ذلك، يعد حلا غير مقبول بالنسبة للسلطة الحاكمة، ولا يمكن أن يترجم واقعا إلا إذا تمكنت قوى المعارضة من تهديد فعلي للنظام، أشد وطأة مما كان عليه الحال إبان فبراير ومارس 2001، ذلك أن نظام آل خليفة شبيه بنظام مبارك مصر وبن علي تونس، لجهة رفضه حلولا وسطا على صعيد هيكلة المؤسسة الحاكمة، وأحيانا يبدو وكأنه إما أن يَكسِر أو يُكسر.

كما أن “النهج السعودي” السائد في المنامة، والمدعوم خليجيا وغربيا يرفض سيناريو التحول الديمقراطي، فيما تبدو إيران مدركة هذه التعقيدات، وتدعو إلى تسوية تأخذ بالاعتبار تحديات الواقع المحلي والاقليمي(10).

فما هي الخيارات المتاحة أمام السلطة والمعارضة؟ والسنياريوهات المتوقعة لاحتواء الأزمة؟ سأحاول فيما يلي عرض جملة من السيناريوهات، وقراءة احتمال تكرارها في ضوء التجارب السابقة بين النظام والمعارضة، والمعطيات الحالية.

  1. سيناريو إزاحة الملك يصطدم بتشتت المعارضة وضعف ولي العهد

في 1923، قررت بريطانيا الإطاحة بحاكم البحرين آنذاك الشيخ عيسى بن على آل خليفة، واستبداله بإبنه البكر الشيخ حمد، وذلك على خليفة شكاوى المواطنين الشيعة من انتهاكات حقوق الانسان، والفساد المستشري عند طبقة الحكم.

وقد عارضت الأطراف الرئيسية في العائلة الحاكمة ذلك التغيير، كما عارضته قبيلة الدواسر التي كانت تصنف على أنها تعبر عن النفوذ السني، خشية أن تضع الإطاحة بالحاكم بداية لنفوذ البحارنة/ الشيعة في الحكم.

ولجأت بريطانيا إلى تعيين الشيخ حمد (الأول) حاكما فرضا، وأجرت تعديلات إدارية اعتبرت مهمة حينها.

وعند مناقشة مدى إمكانية تكرار سيناريو العشرينيات، أي استبدال ملك البحرين بابنه ولي العهد للخروج من الأزمة الراهنة، يمكن التسجيل عدة نقاط:

أولا، يمكن القول أن هناك قطاعات مهمة تطالب برحيل الملك حمد، وربما اسقاط النظام. بيد أن الفارق الأساسي بين الماضي والحاضر هو غياب إجماع الشيعة والمعارضة راهنا على رحيل الملك حمد. ففي العشرينيات من القرن الماضي أجمع البحارنة/ الشيعة على رفض بقاء الشيخ عيسى بن علي في الحكم، وذلك في الرسالة التي سلموها إلى المقيم السياسي البريطاني في البحرين الكولونيل أي . بي تريفور إبان اجتماعهم به في ديسمبر 1921، كما رفض الشيعة العريضة التي طلب الشيخ عيسى منهم توقيعها لتأييده حاكما(11).

أما التياران الشيعيان المعارضان حاليا (الوفاق، تحالف الجمهورية) فلا يطرحان فكرة استبدال الملك حمد بإبنه ولي العهد. فـ “الوفاق” (كبرى جمعيات المعارضة) تدعو إلى تقليص صلاحيات الملك، فيما تحالف الجمهورية (المكون من حركة حق، وتيار الوفاء، وحركة أحرار البحرين) فيطالب برحيل كامل للعائلة الحاكمة من سلطة القرار، والفارق كبير بين تقليص صلاحيات حاكم ورحيله، كما أن الفارق أكبر بين رحيل حاكم ورحيل عائلة.

يزداد هذا الوضع تشظيا مع وجود عوائل شيعية، رغم قلة عددها، تؤيد النظام وهي جزء من بيروقراطيته. فيما جمعية “وعد”، الحليف الرئيسي لـ “الوفاق”، وبعض أعضائها، مثل القيادية البارزة الدكتورة منيرة فخرو، تعتبر الحديث عن تغيير النظام إضرارا بالصالح العام، ما يعني أن قيادات “وعد”، المختلطة بين السنة والشيعة، تقف صراحة ضد أي حديث عن الإطاحة بالملكية، ولا تقترح استبدال الملك بابنه خيارا تسوويا.

إن غياب الإجماع في رؤية المعارضات يزيد من حالة التشتت والإرباك بين أطيافها، ويزيد من تذبذب الجماهير ويعمق تبايناتهم، ويوسع من مساحة المناورة لدى السلطة وداعميها الإقليميين والغربيين، ويمكنهم على نحو أكبر من اللعب على أوتار التباينات التي قد يعتقد أنها ليست جوهرية، لكنها في الواقع ذات أبعادة مهمة، لأن الوحدة بين أطياف المعارضة في مرحلة النضال الوطني أساسية لتحقيق انجاز تاريخي، ونعلم أن تجربة تأسيس مجلس للتنسيق بين أطياف المعارضة في الداخل والخارج باءت بفشل ذريع.

والخلاصة إذا كانت المعارضة لا تطرح خيار العشرينيات كبداية للتغيير الحالي، فإن العائلة الحاكمة وداعميها أولى بتجاهل سنياريو كهذا.

ثانيا، لا يتمتع ولي العهد سلمان بتحالفات داخل العائلة الحاكمة تؤهله لإقناعها بأن يكون بديلا لوالده، إنقاذا للوضع القائم.

ولم يكسب ولي العهد المحافظين في العائلة الذين يقودهم رئيس الوزراء، والذين ينظرون إليه كغربي الهوى. بيد أن ذلك ليس إلا السطح، إذ إن الحرب بين الملك حمد ورئيس الوزراء الشيخ خليفة حسمها الأول عبر تحويل الصلاحيات الاقتصادية إلى ابنه سلمان(12)، وهذا ما أدى إلى الزج بالأخير في حروب طاحنة مع رئيس الوزراء، ولوبي التجار، وحلفائهم من التيار الإسلامي السني، الذين عارضوا ـ عموما ـ مشاريع الإصلاح  الاقتصادي التي تبناها ولي العهد، ودشنها في عام 2003 بإصلاح سوق العمل(13)، الذي بات الآن بعيدا عن أهدافه الرئيسية التي تم اقتراحها بادئ الأمر.

ويبدو مثيرا للدهشة أيضا أن ولي العهد يعاني كثيرا من التهميش من قبل اللوبي المحيط بالملك، والذي يسيطر على القصر بقيادة وزير الديوان خالد بن أحمد آل خليفة، وشكاوى سلمان والقريبين منه من ذلك طالما كانت مادة ساخنة للصالونات السياسية.

ويخشى وزير الديوان أن يسحب ولي العهد البساط منه، وطالما حاول (وزير الديوان) الزج بناصر بن حمد، الأخ غير شقيق لولي العهد، في واجهة الأحداث، وإبرازه إعلاميا على أنه الشخص الأقرب لأبيه، ولعله الشخص الأقدر على إدارة البلاد من بعد والده.

ولعله يبدو مفاجئا للكثيرين القول أنه لو لا وجود حلف غربي (أميركي ـ بريطاني) يدعم سلمان حاكما بعد أبيه، والصورة المتشددة التي ظهر بها أخاه/ منافسه ناصر إبان الأحداث الأخيرة واتهامات التعذيب التي تنسب له، لربما وجدنا ناصر يشغل منصب ولاية العهد، ويظل هذا سيناريو واردا على الدوام، خصوصا إذا استبب الأمر للملك وقضى على الحركة الاحتجاجية.

إن ضعف ولي العهد في منظومة الحكم، يواري فكرة استنساخ نموذج العشرينيات، واستبدال الابن بأبيه، كمدخل للحل يحفظ للعائلة المالكة توارثها الملك، وللشعب تطلعه لأن يكون مصدر السلطات.

ثالثا، إن غياب الملك عن الاشتراك في صناعة القرار إبان ولايته للعهد (1969ـ 1999)، حيث كان رئيس الوزراء الحاكم الفعلي للبلاد، ساعد في أن تكون صورته (الملك) ضبابية عند الرأي العام والقادة الشعبيين، وقد مكّن ذلك الملك من تمرير مشروعه السياسي غير الديمقراطي بنجاح باهر في 2001 (نسبة ٩٨٪ في التصويت على الميثاق).

ويشمل غياب الملك عن المشهد العام إبان ولايته للعهد غياب طاقمه الذي يدير البلد حاليا. فلم يكن وزير الديوان الملكي خالد بن أحمد معروفا عند الرأي العام قبل تولي الشيخ حمد مقاليد السلطة في 1999، كما أن قائد الجيش خليفة بن أحمد (شقيق وزير الديوان) يشتغل وكأنه وزير دفاع مهني لا يزج بنفسه في براثن السياسة.

أما ولي العهد الحالي ومستشاريه فهم منغمسون حتى أخمص أقدامهم في السياسات الجارية. ومنذ ٢٠٠٥ تصدر مستشار ولي العهد الأبرز محمد بن عيسى آل خليفة واجهة الحدث الاقتصادي، وشغل منصب الرئيس التنفيذي لمجلس التنمية الاقتصادية (المتحكم بالقرار الاقتصادي)، وترأّس مجلس إدارة مؤسسة “تمكين” (المعنية بدعم القطاع الخاص وتأهيل بحرينيين للانخراط في سوق العمل بميزانية قدرها ).

كما ترأس بن عيسى وكلية بوليتيكنك البحرين، التي سجل تقرير الرقابة المالية ٢٠١١ ـ ٢٠١٢ وجود شبهات فساد في كثير من أوجه عملها، كما ترأس مجلس إدارة بنك التنمية، وجميعها من مبادرات مشروع ولي العهد لاصلاح الاقتصاد الذي يتضمن ثلاثة أضلاع: إصلاح الاقتصاد، إصلاح سوق العمل، وإصلاح التعليم.

وقد غادر محمد بن عيسى، في مارس ٢٠١٢، منصبه في مجلس التنمية الاقتصادية، وعين مستشارا لولي العهد للشئون السياسية والاقتصادية، في محاولة متأخرة لتقليد نموذج والده في ثنائيته مع وزير ديوانه خالد بن أحمد، لكن فريق ولي العهد مازال يدير ملفات الاقتصاد والنفط.

ويتولى كمال أحمد وزارة الموصلات المعنية بإدارة شركة طيران الخليج (خسائرها اليومية تقدر بنصف مليون دينار بحريني(14))، ومطار البحرين الدولي وقطاع الاتصالات، كما يشغل منصب الرئيس التنفيذي لمجلس التنمية الاقتصادية منذ مارس ٢٠١٢، وهو المسئول أمام البرلمان عن شركة ممتلكات البحرين القابضة (بمثابة الصندوق السيادي البحريني/ الذراع الاستثمارية لحكومة البحرين في القطاعات غير النفطية)، التي تدير محفظة استثمارية حجمها ٨.٨ مليار دولار.

ويشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة ممتلكات محمود الكوهجي، الذي يرأس أيضا رئيس مجلس إدارة شركة “ألبا” لانتاج الألمنيوم (كبرى شركات البحرين)، التي تراجعت أرباحها “خلال النصف الأول من العام 2012 إلى نحو 57 مليون دينار، مقارنة بأرباح تبلغ 102.88 مليون دينار لنفس الفترة من العام 2011، وبنسبة هبوط تبلغ 44.63 في المئة”(15).

ويرأس زايد الزياني مجلس إدارة حلبة البحرين الدولية (لسباق السيارات) التي حققت خسائر سنوية متتالية (أكثر من ٨ مليون دينار في ٢٠١١)، منذ تدشينها في ٢٠٠٤. وقد تم بناؤها بكلفة إجمالية بلغت ١٥٠ مليون دولار لأن ولي العهد يهوى سباقات السيارات، وليست لاعتبارات اقتصادية.

وتسند مهام وزارة المالية إلى أحمد بن محمد آل خليفة، بعد إزاحة عبدالله حسن سيف المقرب من رئيس الوزراء في يناير ٢٠٠٥ في عملية شكلت ضربة قاصمة لتأثير رئيس الوزراء في القرار الاقتصادي (16).

وقد أنيط لوزير المالية في يوليو ٢٠١٢، إدارة شئون النفط والغاز أيضا، في ظل تخوف عن أن تصيبه عدوى الفشل في الشركات المشاريع الأخرى التي يرعاها ولي العهد(17).

إن  تجارب ولي العهد غير الناجحة في إصلاح الاقتصاد (إصلاح سوق العمل، الفورمولا واحد، شركة ممتلكات البحرين القابضة، وطيران الخليج)، أجهضت أمل النخبتين الليبرالية والمعارضة المعتدلة في أن يكون الأمير سلمان بن حمد مشروعا إصلاحيا للحكم الرشيد.

رابعا، لقد فشل ولي العهد في تكوين علاقات متينة مع النسيج الاجتماعي التقليدي (العوائل الكبيرة)، على عكس والده الذي تمكن عبر أربعة عقود من إشرافه على بناء الجيش من تكوين عصبة حوله.

وفيما غاب الملك عن المشهد العام إبان ولايته للعهد، قلل من فرص وجود عداوات له في أوساط الرأي العام حين استلم منصبه، فإن ولي العهد سلمان راكم أخطاء ضخمة في إدارة ملف الاقتصاد، وقد ينظر إليه كشخصية مستبدة، حين يكون مجلس التنمية الاقتصادية الذي يترأسه خارج المساءلة البرلمانية الهشة أصلا، كما ينظر إليه كإداري طائفي حين يكون الفريق المتحولق حوله من طائفة واحدة (سنية).

وإذ يبدو موقف المعارضة إيجابيا من ولي العهد، فإن ذلك لا يخلو من قلة الحيلة وضعف الخيارات، لأنه المعارضين لا يعرفون مع من يتحالفون في السلطة الحاكمة، إنهم لا يجدون شريكا داخلها. إنه موقف يحمل في طياته الكثير من المجاملة، على أمل أن يتصدر ولي العهد المشهد السياسي عبر مواقف عمليه تدعم دعواته للحوار، وهي الدعوات التي أجادها ولي العهد، وقدمته شخصية معتدلة ومنفتحة، لكن تكراره الذي بات مملا لمصطلحات الحوار بدون فاعلية تذكر، قد أضرت ـ في نهاية المطاف ـ بـ “تحالفه” الهش أصلا مع المعارضة، التي باتت تشبّه سلوكه السياسي بأنه أقرب إلى العلاقات العامة للعائلة الحاكمة، وتتهمه بعض أطراف المعارضة بأنه يعمل كمدافع عن النهج الحكومي المستبد بوجه ليبرالي، بل ويمكن أن يتحول إلى أداة في يد العسكر والمتطرفين، كما بدا حين قامت الشركات الكبرى التي يديرها فريقه بفصل نحو ألفي موظف بسبب مناصرتهم للمعارضة في الانتفاضة الراهنة.

إن خسارة ولي العهد للمعارضة أو عدم ربحه لها، لم تمكّن ولي العهد من ربح الجماعات السنية الموالية التي تعده حليفا لخصومها المعارضين، خصوصا حين قدم خطة النقاط السبع (مارس 2011) إبان اعتصامات دوار اللؤلؤة، والتي تقترح نظريا التحول للديمقراطية، بما يعنيه ذلك من احتمالات تأسيس تأثير للشيعة في الحكم، وهو الأمر الذي تخشاه ـ عادة ـ الجماعات السنية الرئيسية.

وخلاصة القول، بأن موقف الشيعة غير المجمع على الإطاحة بالملك حمد، وموقف المعارضة الرئيسية الرافض لسيناريو من هذا النوع، أو عدم طرحه كخيار للخروج من الأزمة، إضافة إلي ضعف ولي العهد في منظومة الحكم، وضعف تحالفاته مع الموالاة، وعدم ثقة المعارضة في إمكانياته، يجعل فكرة الإطاحة بالملك حمد غير متداولة عند داعمي الحكم الخليفي (بريطانيا وأميركا)، أما الراعي السعودي فمثل هذا السيناريو خارج المفكر بعه حاليا، مع أن السعودية كانت عزلت الملك سعود في 1963، حين شعرت بالحاجة إلى ذلك.

ومع ذلك، فحين يكون على العائلة الحاكمة تقديم كبش فداء لإنقاذ حكمها، وحين لا تكون الإطاحة برئيس الوزراء الضعيف أو وزير الديوان الملكي النافذ خالد بن أحمد كافية لإنقاذ الحكم الخليفي، فإن الإطاحة بالملك يصعب إزالتها من طاولة التداول غير المعلنة.

بيد أنه يجدر التذكير بأن الإطاحة بالشيخ عيسى بن علي في العشرينيات كان قد عزز الحكم الخليفي وتحالفه مع الغرب من جهة، وأدى من جهة أخرى إلى تفريغ الاحتقان عند الشيعة الذين اعتبروا ما حدث انتصارا بريطاينا لهم! لكن الواقع أن السيطرة الخليفية استمرت وتزايدت لأن المؤسسة الحاكمة لم يتم إعاد هيكلتها، بل تغيير وجوهها، الأمر الذين مكّن آل خليفة من الاستمرار في الاستفراد بالقرار السياسي والثروة القومية، فيما استمر البريطانيون يقولون للبحارنة/ الشيعة: لقد انتصرنا لكم وعملنا لكم جميلا! والحق أنهم انتصروا لآل خليفة، وساعدوا في تثبيتهم حكاما، بيد أن ذلك يعود أيضا إلى أن الشيعة/ البحارنة ليسوا إلا “سكانا محليين”، ولم يروا في أنفسهم بديلا حاكما، فضلا عن عدم امتلاكهم قوة عسكرية ومالية كما تمتع بذلك آل خليفة وقبيلة الدواسر.

  1. اعتبار المعارضة وزير الديوان ملكا يواري خيار إزاحته

بين 1954 و1956، شهدت البحرين انتفاضة شعبية غير مسبوقة، تصدرتها هيئة الاتحاد الوطني، التي تشكلت بالانتخاب، في أكتوبر 1954، مناصفة بين الشيعة والسنة، برئاسة عبدالرحمن الباكر، لاحتواء أحداث ذات طابع طائفي، لكنها تحولت إلى حركة سياسية تاريخية، رفعت مطالب إصلاحية، أهمها: انتخاب مجلس تشريعي، وإصلاح القضاء، وإصلاح الأجهزة الأمنية، والسماح بتشكيل النقابات العمالية، وإجراء انتخابات حرة في مجال الصحة والمعارف والبلديات، وإصدار عفو عام عن المعتقلين والمبعدين ومحاكمة المتهمين بإطلاق النار ضد المواطنين(18)، إضافة إلي إقالة مستشار حكومة البحرين النافذ تشارلز بلغريف، وهي تطلعات لا تختلف كثيرا عن مطالب حركة 14 فبراير (2011).

وبعد نحو ثلاث سنوات من العمل السياسي النشط، والمفاوضات مع الحكومة المحلية ومندوبي السلطات البريطانية الاستعمارية، لم تحقق الهيئة مطالبها التي رفعتها للحاكم، لكن ذلك لم يقلل من افتخار البحرينيين بهذه التجربة، خصوصا لجهة توحيدها الطائفتين في رفع مطالب وطنية.

وانتهى حراك الخمسينيات بمحاكمة قادة الحراك الوطني، وإبعادهم خارج البلاد، وإحالة بلغريف للتقاعد، وقد كان الحاكم الفعلي للجزيرة.

وحين مقاربة ما حدث حينها، ودراسة احتمالات تكراره كأرضية للخروج من الأزمة الراهنة، فيمكن تسجيل التالي:

أولا: ستواصل السلطات العمل لاحتواء أي تقارب شيعي سني، ومنع تقديم مطالبات في قائمة موحدة، وقد نجحت السلطة في المضي أكثر من ذلك، وتجييش الشارع السني ليكون ضد مطالب عامة إصلاحية ووطنية.

وفي الواقع، فإن السلطات منذ تجربة الخمسينيات قد بدأت تطبق السياسات التي تساهم في تقسيم المواطنين على أسس طائفية، وجاءت ثورة إيران الإسلامية نهاية السبعينيات لتعطي النهج الحكومي التقسيمي ذرائع إضافية.

وقد تحولت هذه السياسات المبعثرة في الثمانينيات، والتي اتسمت بنوع من رد الفعل في التسعينيات، تحولت في العقد الأول من الألفية الجديدة إلى خطة عمل ممهنجة يرعاها الديوان الملكي مباشرة ووزيره النافذ خالد بن أحمد آل خليفة، وقد كشف مفاصلها الرئيسية تقرير البندر. وقد شكل تجمع الفاتح في 21 فبراير 2011 بروفا لقياس مدى نجاح خلق الانقسام الشيعي السني، ولعله سجل نجاحا باهرا وأكثر مما توقعته الحكومة، حين تجمع الآلاف من السنة الموالين مرددين “الشعب يريد إزالة الدوار” (دوار اللؤلؤة).

لقد ورث حراك 14 فبراير فشل المعارضات في عقود الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي في بلورة تحالف وطني متين، ومنع استحواذ السلطات على الرأي العام السني. وتعزز هذا الانقسام في العقد الماضي برفض جمعية الوفاق الوطني الإسلامية التقدم بقائمة انتخابية وطنية في 2006، و2010، ورفضهم حتى ترشيح زعماء تاريخيين مثل عبدالرحمن النعيمي وآخرين بارزين مثل إبراهيم شريف ضمن المقاعد المضمونة للجمعية.

ثانيا: ستواصل السلطات إجراء حوارات شكلية مع بعض أطراف المعارضة، من دون أن تخرج بنتيجة ذات مغزى، كما ستواصل اتخاذ جملة من الإجراءات السطحية التي تساعد في إدارة الأزمة وشراء الوقت، استعدادا للانقضاض على الحراك المطلبي واحتوائه.

ولعل أبرز هذه الإجراءات الشكلية، الحديث المتتالي والفضفاض عن تنفيذ توصيات بسيوني، وتشكيل جهاز ووزير مسئول عن متابعتها، بيد أن ذلك لا يغير بأن هذا التنفيذ سيظل منقوصا، فيما الحقيقة أن تنفيذا أمينا لهذه التوصيات سيؤدي إلى تفكيك منظومة الدولة الديكتاتورية(19)، ولذا فإن توقع تطبيقها لا يستند إلى موقف منطقي.

ثالثا: عند البحث عن الشخصية التي تمارس- راهنا- نفوذا شبيها بنفوذ مستشار حكومة البحرين تشالز بلغريف وسطوته، فإني لن اختار رئيس الوزراء الشيخ خليفة الذي هو خارج منظمومة القرار، عكس ما تروج بعض أطراف المعارضة والإعلام الدولي، وسأختار بلا تردد وزير الديوان الملكي خالد بن أحمد آل خليفة، الساعد الأيمن للملك، والذي يمكن اعتباره رئيس الوزراء الفعلي، أو نائب الملك. إنه بحق الرجل الثاني في الدولة، إذا تحدث/ فعل أمراً فكأن الملك هو من قام بذلك.

فهل بالامكان إزاحة وزير الديوان وإحالته للتقاعد. كما أحيل بلغريف، وهل سيؤدي ذلك إلى تغيير مهم في الحياة السياسية؟

أولا: يبدو مثيرا للدهشة أن المعارضة الرسمية في البحرين (الوفاق وشريكاتها الخمس) تتفادى انتقاد خالد بن أحمد كما تتفادى انتقاد الملك، بل ولعلك تجد بعض الانتقادات للملك، مثل القول بعدم وجود إرادة ملكية للإصلاح، التي وردت على لسان الشيخ علي سلمان الأمين العام للوفاق، لكنك لن تجد بسهولة أي انتقاد لوزيره الأول.

وإذ يمكن البحث عن مبررات لتفادي دخول المعارضة في سلسلة انتقادات إلى الملك قد تقود إلى حدوث قطيعة مع رأس الدولة الذي بيده جزء رئيسي من مفاتيح الحل، فإنه قد يفهم أيضا أن تقدير المعارضة هو أن خالد في مقام الملك، وانتقاده يعني انتقاد الملك.

ثانيا: عاشت الجمعيات المعارضة تجربة سلبية ومريرة على صعيد تخلي الملك عن مساعديه الرئيسيين، فمنذ سبتمبر 2006 تطالب المعارضة بإقالة أحمد عطية الله (ابن شقيقة وزير الديوان الملكي) من منصبه وزيرا لشؤن مجلس الوزراء في أعقاب كشف المستشار السابق للديوان الملكي د. صلاح البندر عن وجود خلية حكومية يتزعمها عطية الله هدفها تقزيم المعارضة والطائفة الشيعية.

وعلى خلاف المتوقع، تمدد نفوذ عطية الله منذ 2006 وأنشأ له أذرعا كالاخطبوط، وأصبح سوبر وزير بإشرافه على جدول أعمال مجلس الوزراء، وترأسه الجهاز المركزي للمعلومات، وديوان الخدمة المدنية، وإدارة الانتخابات، فضلا عن المهام السرية التي تنطيه بها الخلية السرية، كما كشفها تقرير البندر، والتي تضم أذرعا متعددة، منها مخابراتية ومالية وثالثة ذات طبيعة تبشيرية (تحويل شيعة إلى سنة)، ورابعه معنية بإنشاء وإدارة مؤسسات المجتمع المدني تابعة للسلطة، إضافة إلى ذراع إعلامي يشرف على صحيفة الوطن ومركز استطلاع الرأي والإعلام الاكتروني.

وقد اضطر الملك إلى إقالة عطية الله في 25 فبراير 2011 بعد عشرة أيام من انطلاق انتفاضة 14 فبراير، ضمن تغيير وزاري محدود بهدف امتصاص العاصفة الشعبية العاتية.

ولعله لم يكن مفاجئا أن يعيد الملك تعيين عطية الله وزيرا لشئون المتابعة بالديوان الملكي في السادس من ابريل 2011، بعد أن فضّت السلطات بالقوة التجمع الحاشد في دوار اللؤلؤة بدعم عسكري سعودي إماراتي.

ثالثا، إذا كان تعامل الملك مع إشكالية عطية الله على هذا النحو، فلنا أن نتصور كيف سيكون تعامله مع النسخة الأقرب إليه (خالد بن أحمد). ومع ذلك، فإن ما جرى يعني أن إقالة الملك للمقربين منه سيظل أمرا مطروحا إذا كان هذا الإجراء سيقوي وضعية الحكم أمام الحراك الشعبي، بيد أن إجراء من هذا النوع لن يتم إلا في ظروف قاهرة، كما أنه لن يغيب بالضرورة الشخص المقال، الذي قد يظل فاعلا في الكواليس، بمعنى أن التغيير لن يحقق نقلة مهمة في الحياة السياسية، إلا إذا استثمرها الملك لاتخاذ إجراءات إصلاحية مؤسسية عميقة.

ومن الملفت، أنه في الفترة الأخيرة من حركة الخمسينيات، سحبت هيئة الاتحاد الوطني طلبها بعزل المستشار النافذ بلغريف تعبيرا عن الاعتذار لحكومة البحرين والسلطات البريطانية، وذلك على خلفية تعرض موكب وزير الخارجية البريطاني سلوين لويد للاعتداء أثناء زيارته للمنامة في الثامن من مارس 1956(20)، هذا لا يعني أن المعارضة تتخوف من تكرار ذلك السيناريو، ويكلفها طلبها عزل وزير الديوان الملكي اعتذارا لسحب مثل هذا الطلب!

والخلاصة هنا، أن ازاحة وزير الديوان خيار غير مطروح على الطاولة، مادام ذلك لا يمثل مطلبا معارضا، واستبداله يعني رمي الملك لورقة دون داع، لذا فإن أمام الملك خيار آخر وهو إزاحة عمه الشيخ خليفة من رئاسة الوزراء، لشق طريق صعب لإصلاحات تدريجية، لا تجبر الملك على تسليم دفة القرار إلى برلمان وحكومة منتخبة، ولا تتجاهل معطيات انتفاضة ١٤ فبراير واستحقاقات الربيع العربي.

وتجد إزاحة الشيخ خليفة دعما من الغرب وجميع دول الخليج باستثناء السعودية، كما لا تعارضها الواجهات السنية الرئيسية المنحازة للملك، عكس ما يشاع عن تمسكهم برئيس الوزراء. أما المعارضة المرخصة (الوفاق وشريكاتها)، فهي تعتبر إزاحة رئيس الوزراء الخطوة الأولى للإصلاح، لكنها تنازلت عن كون هذا المطلب خطوة تسبق بدء حوار لفتح صفحة جديدة، ومثل هذا الموقف غير الحاسم يضع علامات استفهام حول ما إذا كان تغيير رئيس الوزراء خيار لا بد منه للسلطات.

إبان اعتصامات دوار اللؤلؤة (فبراير ـ مارس 2011) تحول مطلب تغيير رئيس الوزراء إلى نوع من كسر العظم بين المعارضة المطالبة بتعيين شخصية أخرى من العائلة الحاكمة لا تعتبر “رمزا” وتكون قابلة للمساءلة، وبين السلطة التي كانت تخشى أن يتلو تغيير الشيخ خليفة تكرار ما حدث في تونس ومصر من تغييرات دراماتيكية.

لكن تغيير الشيخ خليفة لم يعد بهذه الحساسية الآن، فهو أصلا خصم للملك، وقد جرده من كل الصلاحيات في إدارة الحكم، وعرض الشيخ حمد على عمه مرارا تعيينه في منصب نائب الملك، وهو منصب شرفي ولا ينص عليه الدستور، لذا رفضه رئيس الوزراء بشدة، وقد يكون هذا خيارا واردا في 2014.

إن إزاحة رئيس الوزراء يراد لها أن تكون بديلا لتسوية تاريخية، وأعني بالتسوية التاريخية، تلك التي يتفق بشأنها مع أطراف الشعب على كتابة دستور جديد.

بيد أن رئيس الوزراء ليس إلا قشرة الدكتاتورية في البحرين، ويصعب أن تؤدي إزاحته إلى التحول نحو الديمقراطية، الشرط الأساسي للاستقرار، إلا إذا استغلها الملك وأعطى انطباعا بأن رئيس الوزراء هو ما كان يعيق الرصلاحات، واتخذ إجراءات جوهرية لإعادة هيكلة مؤسسة الحكم، ويبدو ذلك سيناريو ثوري لا يليق بمنطقة محافظة.

وأخير، فإن إحالة بلغريف كانت جزء من خطة لإعادة تنشيط النفوذ البريطاني في البحرين، في ظل الاضطرابات الدائمة طوال السنوات التي سبقت انتفاضة ١٩٥٦، ما يعني أن توافقا خليفيا مع داعميهم الإقيلميين والدوليين، سيكون حاسما بشأن مدى الحاجة إلى تغيير وجوه متخذي القرار في النظام، على نحو أكبر من الاستجابة لمطالب شعبية أو إصلاح سياسي.

  1. فرص التوافق الدستوري منعدمة مادام الملك يرى المس بالدستور مسا بشخصه 

اختار شعب البحرين استقلال أرضه وهويته العربية حين وافقت إيران في ١٩٧٠ على إجراء استطلاع للرأي على استقلال البحرين(21). حينها كان الاتفاق غير المكتوب بين الشعب والعائلة الخليفية أن يلي الاستقلال التوافق على صيغة دستورية تضمن شراكة في القرار والثروة القومية بين الطرفين، رغم ان ذاك الاستطلاع غير المقنن الذي أجراه مندوب الأمين العام للأمم المتحدة في مارس ١٩٧٠ تمحور حول عروبة البحرين واستقلالها، ولم يتطرق إلى طبيعة الحكم فيها.

بعيد الاستقلال (أغسطس 1972)، تشكل المجلس التأسيسي لكتابة الدستور، بأغلبية 22 عضوا منتخبا و20 عضوا معينا. وأقر المجلس الدستور، وأصدره أمير البلاد الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في عام ١٩٧٣، ما يعكس الشراكة في كتابة الدستور وإقراره.

ويعد دستور دولة البحرين الشرعية الشعبية الأولى لحكم عائلة آل خليفة في البحرين، وكان مؤملا أن يفتح أفقا للانتقال من حالة التوتر الدائم الذي طبع الحياة السياسية منذ دخول آل خليفة الجزيرة الصغيرة، قادمين من الزبارة (تقع في الساحل الشمالي الغربي من شبه الجزيرة القطرية) في العام 1873، ويطوي ثقافة العائلة الخليفية “الفاتحة” التي مازالت تعتبر “فتح”/ الاستيلاء على البحرين من مفاخرها.

وتصر العائلة الحاكمة على استخدام مصطلح “الفتح”، لأنها تعتقد أنه يمنحها رخصة لامتلاك الأرض وما عليها من شعب وممتلكات، ضمن تفسير “إسلامي” للفتوحات، يقال أن بعضه قد يصح عند دخول المسلمين “دولة كافرة”، وليس دولة هي من أوائل الدول إسلاما، إلا إذا اعتبرنا المواطنين من المسلمين الشيعة الذين يمثلون غالبية شعب البحرين كفارا!.

إن التوافق على الدستور سجل أيضا اعترافا شعبيا بشرعية حكم آل خليفة، لتكف القوى السياسية ـ الشيعية خصوصا ـ عن الحديث عن احتلال آل خليفة للبحرين، بعد أن تحول أفرادها إلى جزء من الوطن، بعد نحو قرنين على دخولهم البلاد.

إذا، فإن معاني كتابة الدستور والتوافق عليه أعمق بكثير من كونه حدثا سياسيا فريدا للتحول الديمقراطي في منطقة قاحلة سياسيا. إنه ينقل الأطراف المتنازعة في البلد على هويته وملكيته وقراره وثروته من محل الصراع، إلى الإقرار بأن البحرين لجميع أبنائها بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.

بيد أن قيام السلطات بحل البرلمان المنتخب في ١٩٧٥، وتعليق العمل بالدستور، وإصدار قانون أمن الدولة، أعاد الوضع إلى ما قبل ١٩٧٠، ودخلت البلاد نفقا استمر حتى ٢٠٠١، حين بدأ مشروع الملك حمد السياسي الذي كان واعدا بأن “أجمل الأيام تلك لم نعشها بعد”، كما قال، مدشنا عهده بآمال كبيرة.

وعند دراسة إمكانية تكرار ما حدث في ١٩٧٣، وفرصة أن يكون التوافق على كتابة دستور جديد خيارا متاحا راهنا، فيمكن تسجيل النقاط التالية:

أولا: إن إحدى أهم الإشكالات التي عاشتها البحرين في العقد المنصرم من الألفية الجديدة هو وجود دستور غير متوافق عليه، في أعقاب إصدار الملك حمد دستور ٢٠٠٢ دون مشاورة القوى السياسية، واستفتاء الشعب.

وعلى الرغم من وجود انتخابات دورية (٢٠٠٢، ٢٠٠٦، ٢٠١٠)، وبرلمان نصفه منتخب، فإن الوضع السياسي تردى على نحو تجاوز الإشكالات العميقة أصلا، التي عاشتها البلاد عندما كان دستور ١٩٧٣ معلقا ولا يعمل به، بين ١٩٧٥ و٢٠٠٢.

ولعل الخطأ الفادح الذي ارتكبه الملك: تعاليه على المرجعية الشعبية، وقيامه بإلغاء دستور ١٩٧٣ المتوافق عليه، وهو الإجراء الذي لم يقم به رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة الذي حكم البحرين بيد من حديد بين ١٩٧٢ و٢٠٠٠، لكنه لم يلغ الدستور، وإن لم يطبقه.

لقد ضرب الملك بإصدار دستور ٢٠٠٢ من طرف واحد أسفينا بينه وبين قطاعات واسعة من الشعب الذي ناصر من دواخله وبكل صدق وحماس مشروعه السياسي. وبتوالي السياسات غير الحكيمة الأخرى أفرز ثورة غير مسبوقة في البحرين، تفجرت في الذكرى التاسعة لإصدار الدستور (١٤ فبراير ٢٠١١)(22).

ثانيا: يعتبر الملك نفسه أبا للدستور، ويرى في تغيير مرتكزات النظام الدستوري القائم مسا بشخصه ومكانته.

إن هذا البعد الشخصي يعقد من فرص التوافق الدستوري. إذ يبدو الملك مستنفرا حين يتم الحديث عن إلغاء مجلس الشورى الذي يعتبره الملك من بناة أفكاره، فضلا عن كونه صمام أمان للسلطة الحاكمة، لكنه يبدو مستفزا أكثر حين يسمع مطلب إلغاء الدستور القائم، لقد حول ذلك الحديث عن توافق على دستور جديد إلى خط أحمر لدى السلطة.

ثالثا: لا يبدو خطاب الجمعيات المعارضة متمسكا بتشكيل مجلس تأسيسي يكتب الدستور، لكنها تتمسك بمقولة دستور متوافق عليه، وربما تكون متمسكة أيضا بمقولة أن يمر أي تعديل دستوري عبر استفتاء شعبي، ما يعني أن الدستور المأمول يمكن أن يكون الدستور القائم حاليا، والذي يمكن أن تتم إدخال تغييرات عليه من خلال الآليات الدستورية القائمة، التي من بينها موافقة مجلس الشورى المعين الذي يمثل نصف مقاعد الرلمان، فضلا عن موافقة الملك.

وتقول بعض أطراف المعارضة أنها لا تستبعد هذا الخيار لتسهيل التسوية السياسية، إذ تتمسك بما تسميه جوهر الحق: الشعب مصدر السلطات، ولا تتمسك بآلياته، ومن دون شك، فإن توقع إصدار دستور عصري من خلال الآليات القائمة أقرب إلى حلم يقظة.

رابعا: يكاد يتفق كثيرين بحتمية فوز الغالبية الشيعية في أي انتخابات عادلة ونزيهة لأي مجلس تأسيسي، وهو ما يزيد من رفض السلطات والجهات السنية الموالية لهذه الفكرة، بل رفض حتى مجرد نقاشها أو وضعها على الطاولة، ولذلك ضمت بنود مبادرة ولي العهد (مارس ٢٠١١) مسائل مثل حكومة معبرة عن الإرادة الشعبية، ومجلس كامل الصلاحيات، لكنها لم تتضمن فكرة انتخاب مجلس تأسيسي، وهي نقطة خلاف أدت ـ ضمن نقاط أخرى ـ إلى تأخير رد المعارضة على مبادرة ولي العهد بالإيجاب.

وكحل لإشكالية الغالبية الشيعية، تقترح جمعية “الوفاق” اللجوء إلى خيار “الديمقراطية التوافقية”، وهو مصطلح يفهم منه منح كل طائفة حصة في الحكم، وفيتو للطائفة السنية لمنع احتكار السلطة من طرف الجماعات الشيعية (الأغلبية)، كما تقترح “الوفاق” نسبة تصويتة ـ في المجلس التأسيسي ـ تبلغ ٦٠٪ على المواد الرئيسية في الدستورية.

وترفض السلطات هذه المقترحات من منطلق مبدئي، ولكن أيضا لأن الموطنين الشيعة مازالوا يشكلون أكثر من ٦٠٪ من السكان، رغم كل العبث في الديموغرافيا والتجنيس السياسي المتواصل. ولعل إحدى دلائل ذلك أن كتلة “الوفاق” النيابية حصلت على ٦٢٪ من الكتلة الانتخابية المشاركة في انتخابات ٢٠١٠(23)، رغم أنها فازت بـ ١٨ مقعدا فقط، بسبب الخلل في توزيع الدوائر الانتخابية(24).

ولا يبدو أن الملك حمد في وارد اللجوء إلى الخيار المغربي، حين اختار ملكه محمد السادس تشكيل لجنة مرموقة، في مارس 2011، كلفها كتابة دستور يأخذ بعين الاعتبار استحقاقات الربيع العربي، ويوسع من صلاحيات البرلمان ومجلس الوزراء، رغم أن كتابة الدستور تم على نحو يجعل الملك المغربي رئيسا للدولة بسلطات واسعة.

والرفض يعود إلى الإصرار على اتباع الآليات العقيمة للإصلاح الدستوري من خلال المؤسسة التشريعية القائمة، ولأن فكرة أن يكون رئيس الوزراء من غير العائلة الحاكمة، كما هو الحال في المغرب غير مقبولة عند آل خليفة، حتى ورئيس الوزراء لا يحظى بصلاحيات يستمدها من الشعب، كما في الحالة الأردنية.

ومع ذلك، فإن المجلس التأسيسي الذي كتب دستور ١٩٧٣ ضم غالبية منتخبة بسيطة (صوتين)، ولم يكن يسمح للغالبية الشعبية بأن تحتكر كتابة الدستور كما هو عادة في الديمقراطيات الكلاسيكية. ومادام النقاش هنا يقارب احتمالات تكرار تجارب سابقة للخروج من الأزمة الراهنة، فلا يفترض أن يكون تشكيل مجلس تأسيسي ـ شبيه بالنموذج السبعيني ـ محرما مادام للسلطة صوتا معتبرا فيه، بيد أن ما يجعل هذه الفكرة موؤودة اعتبار السلطة لها ضربا لمشروع الملك الدستوري.

  1. سيناريو الإصلاح من طرف واحد.. كلفة دون مردود

بعد انتهاء حرب تحرير الكويت، تبنت الحركة الوطنية في البحرين توقيع عريضة نخبوية تطالب بعودة العمل بدستور ١٩٧٣، وانتخاب البرلمان المنحل منذ ١٩٧٥.

سلمت العريضة إلى أمير البحرين الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة منتصف نوفمبر 1992، من قبل ما عرف بـ “لجنة العريضة”، التي ضمت شخصيات إسلامية ويسارية، شيعية وسنية، من أبرزهم الراحل الشيخ عبدالأمير الجمري، والدكتور عبداللطيف المحمود الذي يتزعم حاليا تجمع الوحدة الوطنية الذي يتخذ مواقف مناصرة للحكومة ومضادة لمطالب انتفاضة 14 فبراير الأخيرة.

ورفض الأمير الاستجابة لطلب لجنة العريضة، بدعوى أنها لا تمثل الشعب، وأصدر في 20 ديسمبر 1992 أمرا بتعيين مجلس استشاري، مكون من 30 عضوا، مدته أربع سنوات.

في ديسمبر 1993، قررت “لجنة العريضة” تسليم الأمير الراحل عريضة شعبية، وقعها الآلاف، للتأكيد على أن إعادة العمل بدستور 1973 مطلب شعبي، لكن السلطات رفضت تسلم العريضة.

ونتج عن تعاطي السلطات بعنف مع العرائض ومقدميها، انفجار الأوضاع في ديسمبر ١٩٩٤، تزامنا مع احتفالات العيد الوطني وعيد جلوس أمير البلاد، وانعقاد قمة مجلس التعاون الخليجي في المنامة، وكان للتوقيت دلالة خاصة، ووقعا مؤثرا داخليا وإقليميا.

سيطر الحل الأمني على تعامل السلطات مع الانتفاضة الشعبية ـ كما تسميها أدبيات المعارضة ـ وأدى ذلك إلى سقوط أكثر من 40 ضحية خلال سني الانتفاضة، وإبعاد ثلاثة من قادتها بمن فيهم الشيخ علي سلمان الأمين العام الحالي لجمعية “الوفاق”، كما تم سجن وتعذيب زعيم الحراك الشعبي الراحل الشيخ عبدالأمير الجمري، ورفيقيه حسن مشيمع وعبدالوهاب حسين، المعتقلين حاليا على خلفية أحداث 14 فبراير (2011)، وهما عضوان رئيسيان في تحالف الجمهورية الذي يدعو لإسقاط النظام، وقد كانا من دعاة إصلاح النظام والحركة الدستورية في التسعينيات.

وفي ذروة الاحتجاجات، سبتبمر 1996، أصدر الأمير الراحل أمراً بزيادة أعضاء مجلس الشورى إلى 40 عضوا، لكن صلاحياته بقيت شكلية، ورفضته المعارضة الداخلية وحركة أحرار البحرين، الواجهة الرئيسية للمعارضة في الخارج (لندن).

وقد استمر التوتر المصحوب بالعنف حتى مجئ الملك حمد في 1999، حين اعتبرت القوى السياسية أن من المهم إعطاء الأمير الجديد فرصة للإصلاح، لكن الواقع أيضا أن الحركة الشعبية كانت في حالة ضمور.

وتشكّل آخر مجلس شوري مع غياب دستور 1973 في العام 2000 من قبل الأمير حمد (قبل أن يعلن نفسه ملكا في 2001)، وضم بين أعضائه شخصيات ذات نفس إصلاحي، لكن المعارضة رفضت هذا المجلس، وكررت مقولاتها التي أبلغتها للأمير الراحل بأن من حق السلطات تشكيل أي مجالس أو لجان شورية لكن ذلك لا يصح دستوريا أن يكون بديلا عن المجلس المنتتخب.

إن تأسيس مجلس الشورى والإجراءات “الإصلاحية” التي اتخذتها الحكومة منذ 1992 لاحتواء الحراك المطلبي لم تحقق المرجو منها، بل إن الأوضاع السياسية تفاقمت بعد سنتين من ذلك، وعمقها الحل الأمني السائد، الذي ترافق مع جملة من المبادرات السياسية والحوارات مع القادة الشعبيين داخل السجن وخارجه، والتي هدفت من خلالها الحكومة إلى كسر شوكة الحركة الدستورية، وضرب صدقية قيادتها الشعبية.

إن الاستراتيجية الحكومية المركبة: العنف المدعوم قضائيا وإعلاميا، والمتزامن مع متاهة الحوار الشكلي، ومبادرات الإصلاح الباهتة، إضافة إلى طول النفس الحكومي المدعوم خليجيا وغربيا، هذه الاستيراتيجية تمكنت بعد نحو أربع سنوات من تحجيم الحراك الشعبي، لكنها لم تتمكن من خلق الاستقرار، فيما ظلت شرعية السلطة قائمة على مرتكزات القوة وحدها.

والآن، ماذا عن بنود الإصلاح من طرف واحد، و فرص نجاحها في أن تشكل جسر عبور إلى بر الأمان من الأزمة المستفحلة حاليا؟

إن فرضية الإصلاح من طرف واحد قائمة، ولعلها ـ إن حدثت ـ تشمل الجوانب التالية:

أولا، تعديل الدوائر الانتخابية

لا أعتقد أن السلطات ستجري تغييرات مهمة لإصلاح النظام الانتخابي، ولعلها ستحصر بعض إجراءاتها في إصلاح الدوائر الانتخابية لتكون أكثر تعبيرا عن الثقل السكاني للمواطنين الشيعة.

وحاليا، فإن الدوائر الانتخابية تتسم بعدم العدالة، وهي موزعة وفق أسس طائفية، تضمن للمواطنين الشيعة انتخاب 18 عضوا، فازت بها الوفاق في الانتخابين 2006 و2010، وتمنح المواطنين السنة فرصة انتخاب 22 عضوا.

ويبدو الخلل واضحا في عدم تحقيق هذه الدوائر مبدأ “صوت لكل مواطن”. فبحسب إحصاءات آخر انتخابات عامة أجريت في البحرين (٢٠١٠) تبلغ الكتلة الانتخابية في الدائرة الأولى في المحافظة الشمالية (تقطنها أغلبية شيعية) أكثر من 16000 ناخب، بينما تبلغ الكتلة الانتخابية في الدائرة السادسة في المحافظة الجنوبية (تقطنها أغلبية سنية) نحو 800 ناخب، وفي كلا الحالتين يتم انتخاب ممثل واحد عن كل دائرة.(25)

لكن إصلاح الدوائر لا يعني إصلاح النظام الانتخابي الذي لا يتسم بالشفافية. وتهمين السلطة التنفيذية على إدارة العملية الانتخابية برمتها، لذا قد يتم طرح فكرة إنشاء هيئة مستقلة للانتخابات، على الطريقة الأردنية، ولعل وجود هيئة “مستقلة” يكون أنسب للسلطات من وجود دوائر عادلة، ذلك أن الهيئة لا يمكنها إلا العمل على تنفيذ القانون الساري، والتأكد من عدم التزوير في يوم الانتخابات، فيما نعلم أن الجزء الأكبر من التلاعب يتم قبل يوم الانتخاب عبر اللعب في الدوائر والمال السياسي وانحياز الإعلام والتسويق الديني.

ومع ذلك، فإن يوم الانتخاب يشهد تلاعبا مفضوحا، حين يتم الزج بالعسكريين لترجيح طرف على آخر، كما حصل حين أطيح بالزعيم التاريخي لجمعية “وعد” والمرشح السابق المرحوم عبدالرحمن النعيمي في 2006، وكذا الإطاحة بوجهي المعارضة البارزين إبراهيم شريف ومنيرة فخرو في 2006 و2010، وكل ذلك يتم من خلال الدفع بالعسكريين والدواسر/ السعوديين المجنسين حديثا للتصويت لصالح المرشح المرغوب، ويتم التصويت هذا في  مراكز انتخابية عامة خارج الدوائر الانتخابية مما يسهل عى السطات التزوير فيها.

والخلاصة، قد تتخذ السلطات جملة من الإجراءات لتحسين نزاهة العملية الانتخابية، لكن ذلك لن يفقدها قدرتها على توجيه المخرج للانتخابي لصالح المرشحين المرغوبين حكوميا.

ثانيا، ابتكار شرعية شعبية لمجلس الشورى

حتى مع مضي السلطات نحو تعديل الدوائر الانتخابية لتكون أكثر عدالة، فإن تشكيلة المؤسسة التشريعية تظل ترجح رأي السلطة التنفيذية مع وجود مجلس الشورى المعين إلى جانب مجلس النواب المنتخب، وكلاهما يحظيان بنفس المهام التشريعية. بمعنى أنه على فرض إجراء انتخابات نيابية نزيهة تماما، وتمكنت المعارضة من حيازة الأغلبية في المجلس المنتخب، فإن المجلس المعين يمكنه إجهاض أي تشريعات لا تريدها الحكومة.

وفي ظل تمسك السلطات بمنح مجلس الشورى صلاحيات تشريعية مساوية للمجلس المنتخب، فإنه يمكن للسلطات أن تقترح صيغة لانتخاب غير مباشر لجزء من المجلس المعين، في محاولة لمنحة شرعية شعبية، لكن السلطات ستواجه تحديا لابتكار مصطلح بديل لـ “التعيين”، ذلك أن آليات “الانتخاب غير المباشر” أو ابتكار “معايير للتعيين” ستظل تمنح الملك اليد الطولى في اختيار أعضاء المجلس المعين.

إلى ذلك، فإن تمسك السلطات بأن يكون عدد الأعضاء المعينين في البرلمان مساويا للمنتخبين يبدو تعنتا سياسيا، فضلا عن كونه إجراء مناقض للديمقراطية بمفهمومها العالمي،  ذلك أن التجربة الأردنية التي تسيطر فيها المؤسسة الحاكمة على القرار التشريعي والسياسي يتكون فيها مجلس الأعيان المعين من نصف عدد أعضاء المجلس المنتخب، ولم يغير ذلك إطلاقا من توازنات القوة التي تستمر عند الأسرة الهاشمية الحاكمة.. لذلك فإن القيام بخطوة شبيهة تظل واردة.

ثالثا، تحسين تمثيل الوجوه الشعبية في مجلس الوزراء

إن خطوة كهذه لا تكلف شيئا من ناحية دستورية. كما لا تغير من ميزان القوة في مؤسسة القرار، لذلك سيظل ينظر إلى خطوة كهذه على أنها إجراء تجميلي، مقارنة بالقيام  بإصلاح النظام الانتخابي، أو اتخاذ إجراء جاد لمنح مجلس الشورى شرعية شعبية، فكلا الخطوتين الأخيرتين  تعتبر إجراء قابلا للترويج وتحويله مركزا للبروباغندا.

ويمكن تعداد جملة من إجراءات أخرى قد تتخذها السلطات من جانب واحد. لكنها إجمالا يصعب أن تحقق مطالب المعارضة في حكومة وبرلمان منتخبين، وقضاء مستقل، ودوائر انتخابية عادلة، ومؤسسات أمنية تمثل الجميع.

ومع ذلك، قد تزيد هذه الإجراءات الإصلاحية الضغط الغربي على المعارضة، وقد تزيد من مساحة المتسربين من تحت أجنحتها، وتقلل الداعمين في بعض أوساط النخبة، التي تريد بعضها أن تخرج من عنق زجاجة وجدت نفسها عالقة بها، فهي لم تكن جزء من انتفاضة ١٤ فبراير، لكنها وجدتها فرصة للتنفيس عن مكبوتها، وتوقعت انتصارها، وهذه الفئة تنشد الفرصة لتغير مسارها، ولعل خطوات إصلاحية وإن كانت محدودة تساعدها في ذلك.

بيد أن تجربة التسعينيات تؤكد أن أي إصلاح من جانب واحد، ولا تسهم المعارضة في الترويج له، سيظل عبئا على الوطن، أكثر منه إصلاحا. لكن المعارضة، بما في ذلك الجهات الراديكالية/ الممانعة/ الثورية ترى في عدم الحوار مع السلطة الخيار  الأنسب، وتعتبر إجرءاتها الإصلاحية الشكلية مكسبا للجمهور، لكنها لا تسحتق العناء للدخول في تسوية.

  1. سيناريو إنجاز “أسلو” بحريني جديد

في 2001، تعاطت المعارضة بحذر مع عرض قدمه الشيخ حمد إلى التصويت على ميثاق العمل الوطني لبدء مشروع سياسي إصلاحي يخرج البحرين من عنق زجاجة دام ربع قرن، وعبرت المعارضة عن قلقها من أن يفسر التصويت على الميثاق كضوء أخضر للملك بأن يجري تغييرات دستورية من جانب واحد، ويلغي دستور 1973.

أكد الملك للمعارضة بأنه “ابن عيسى بن سلمان ولن يلغي دستورا أعده والده”(26)، وصدرت تصريحات رسمية لابنه ولي العهد سلمان تؤكد بقاء دستور 1973  (27)، وأخرى لوزير العدل السابق عبدالله بن خالد آل خليفة الذي ترأس لجنة إعداد ميثاق العمل الوطني تؤكد حصر دور مجلس الشورى ـ الذي اقترح الميثاق إنشاءه ـ في الاستشاره غير الملزمة، ليكون التشريع والرقابة حصرا من اختصاص مجلس النواب المنتخب.

اعتبرت المعارضة هذه التطمينات كافية للتصويت على الميثاق، متأثرة أيضا بأسلوب “الصدمة” التي اتبعها الملك حمد، بإغراقه المجال العام بجملة من الإجراءات “التاريخية”، حين ألغى قانون ومحاكم أمن الدولة وأفرج عن المعتقلين السياسيين وسمح للمبعدين بالعودة وخلق مناخا إيجابيا لحرية التعبير.

لقد شكل التصويت على الميثاق فرصة استثنائية لإعادة الاعتبار للشرعية الشعبية وتصحيح مسار العلاقة بين الشعب والأسرة الحاكمة، وكان مؤملا أن يتم دعوة المواطنين لانتخاب المجلس الوطني (البرلمان) ليجري التعديلات الدستورية التي اقترحها الميثاق، ويصدرها الملك وفق الإجراءات التي ينص عليها دستور 1973.

لكن الملك فاجأ الحركة السياسية وأصدر دستورا جديدا في 14 فبرير 2002، مخالفا وعوده بالحفاظ على دستور 1973، وتشكيل برلمان له صلاحيات تشريعية كاملة.

أضر ذلك كثيرا بالثقة التي بدأت تبنى بين العائلة الحاكمة والمعارضة، وحاليا فإنه يصعب أن تصدق المعارضة المقولات والوعود والتطمينات التي يطلقها الملك أو أحد معاونيه بشأن الأصلاح.

وقد عمق من غياب الثقة تجارب السنوات العشر الأخيرة، التي شهدت استئثار السلطة بالمجال العام، وإصدار القوانين المقيدة للحريات، والإخلال بالعملية الانتخابية وتزويرها، فيما قضى الحل الأمني السائد منذ 14 فبراير 2011 على إمكان أن تكون المفاوضات غير المقننة والتوافقات غير الموثقة طريقا لميثاق جديد وآلية للخروج من الأزمة الراهنة.

إن غياب الثقة في الملك جعل الأخير يحيل ملف المفاوضات مع المعارضة إلى ابنه ولي العهد، وإصدار قرار ملكي بمنحه تفويضا كاملا لذلك (فبراير 2011)، بيد أن تكليفا لولي العهد لمتابعة الحوارات الوطنية كانت صادرة أصلا منذ أكتوبر ٢٠٠٤(28).

إن غياب الثقة هذه دعا المعارضة لأن تطلب من ولي العهد تقديم مبادرة مكتوبة تتم على أساسها المفاوضات، بدل الحديث الشفوي غير الموثق (مارس 2011).

وساهمت دعوة قطاع مهم من المعتصمين في دوار اللؤلؤة (فبراير- مارس ٢٠١١) إلى اسقاط النظام وعدم الدخول في حوار فضفاض، في عدم الاسجابة الفورية إلى مبادرة ولي العهد غير المجدولة زمنيا.

إن أثر الإخلال بما تم التوافق عليه في الميثاق سيظلل العلاقة بين المعارضة والعائلة الحاكمة لفترات مقبلة. بيد أن هناك رأيا آخر يعتقد إن ذلك الإخلال سيجعل الأطراف المختلفة تبذل جهودا أكبر للوصول إلى صيغ  مقننة، بيد أن هذا الفهم يتناسى أنه حتى في الصيغ المقننة يمكن أن تجد الأطراف من خلالها ثغرات للتهرب من التزامها.

إن التوافقات المكتوبة لا يمكن أن تكون بديلا عن حسن النية التي يفترض أن تسود أجواء الحوار وتنفيذ الاتفاقات. ومع ذلك، يتساءل البعض فيما إذا كانت المعارضة تدير حواراتها مع السلطات على الطريقة الفلسطينية، أم على الطريقة السورية؟ وكلتاهما لم تُعد الحق العربي! بيد أنه في الأولى يكاد يتحول الحوار إلى غاية وليس وسيلة، فيما الصفقات المرحلية سمة بارزة في النمط التفاوضي الفلسطيني، الذي قاد إلى مأزق “أوسلو”.

أما المفاوض السوري، وقبل أن يبدأ التفاوض (وليس الحوار) يَشترط أن تقود المفاوضات إلى انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الجولان، وإلا فإنه لا يدخل في مسار تفاوضي غير معلوم النتائج.

لا الفلسطيني ولا السوري تمكن من استعادة أرضه المحتلة، بيد أن الأول منح شرعية للاحتلال، ودخل دهاليز لا توصل إلى نهاية النفق، وخسر الكثير من الأرض والأرضية، فيما تمسك الثاني بمقولاته ولم يخسر الجولان رسميا.

ولعل الوفاق دخلت دهاليز “أوسلو” بحريني بمشاركتها في برلمان 2006، وقد تكون مكّنت السلطة من كسب الكثير من “المجد” المؤقت، لكنها في نهاية المطاف عرّت السلطات وكشفت زيف مشروعها، وسحبت منها لباس الشرعية الشعبية.

لقد أنقذ ربيع البحرين “الوفاق” من نفق “أسلو”، ولست متأكدا أن ذلك سيقيها من التورط في “أوسلو” جديد. لقد قطعت استقالة كتلة “الوفاق” النيابية من البرلمان ( فبراير 2011) فرص العودة للمؤسسة التشريعية من دون تغيير قواعد اللعبة، وسيظل شارعها يسأل: ماذا تغير كي نعود للبرلمان؟

كما أن تجربة “الوفاق” النيابية بين ٢٠٠٦ ـ ٢٠١١، لم تكن ناجحة بالقدر المأمول لجهة الانجاز التشريعي والرقابي. ولعل الأكثر تعبيرا عن احباط “الوفاق” تمثل في عدم قدرتها على تمرير تغييرات دستورية شكلية وثانوية (مايو ٢٠١٠).

ويتجاوز الأمر ذلك إلى التجربة السلبية مع الملك، الذي جاء محملا بالوعود، لكن السنوات العشر الأولى من عهده طغى خلالها مشكلات سياسية جذرية.

وتبدو الضغوط الرسمية على المرجع الديني الشيعي الأعلى في البحرين الشيخ عيسى قاسم، وزعيم الوفاق الشيخ علي سلمان غير قادرة البتة في زحزحتهما عن مواقفهما المؤيدة للإصلاح، ولن تجد في تاريخ المعارضة ـ طوال مئة عام من النضال ـ لحظات تم فيها رفع الراية البيضاء، لكن تاريخها دون شك مليئ بالتطبيع من أوضاع تتمسم بالاستبداد.

ولا يساهم وجود رموز تيار “الممانعة” في السجن (عبدالوهاب حسين، حسن مشميع، عبدالهادي الخواجه والآخرين)، الذين ساهموا في انطلاقة حراك 14 فبراير، في دخول المعارضة تسويات فضفاضة.

وصحيح أن “الممانعين” لن يتمكنوا ـ وفق الظروف الراهنة ـ من فرض تسوية تاريخية، بيد إن نفوذهم بات من القدرة بمكان أن يشكل فيتو حقيقي لأي تسوية لا يقرونها.

ولا يظهر حتى الآن أي بوادر انكسار عند الرمزين الشعبيين الأبرزين في السجن (حسين، ومشيمع)، بعد زهاء عام ونصف من اعتقالهما، ولعل وجودهما والآخرين في السجن سيظل مرتبطا بالقدرة على الحصول منهما على قدر من التنازلات تجبر الحركة المطلبية على تقديم تنازلات مؤلمة.

بيد أن الإشكال الذي سيواجه السلطة في ذلك، أن حسين ومشيمع كانا قد خاضا مفاوضات إبان انتفاضة التسعينيات عرفت بـ “المبادرة” (١٩٩٦)، كانت تقضي بقيام القادة الشعبيين بتهدئة الشارع، تليها حوارات سياسية للخروج من الأزمة، وكالعادة لم توف السلطات بوعودها، وأعادت القادة الشعبيين للمعتقل، بمن فيهم زعيم الانتفاضة الراحل الشيخ عبدالأمير الجمري.

أما الحوارات السياسية التي ساهم فيها حسين ومشميع للوصول إلى تسوية الميثاق (2001)، فقد استثمرها الملك لإصدار دستور جديد. لقد كان ذلك أمرا حاسما للغاية في أن يتصدر عبدالوهاب حسين وحسن مشيمع دعوات المقاطعة لانتخابات ٢٠٠٢، ثم يصّعدان من خطابهما  في ٢٠١١، في لحظة تاريخية فاصلة، نحو مطلب تحول البحرين للنظام الجمهوري.

إن ذلك كله يقلل من قدرة المعارضة المعتدلة والسلطة على المناورة، ويعبر الأمين العام للوفاق الشيخ علي سلمان عن ذلك بوضوح حين يقول “إن الحكم المؤبد على حسين ومشيمع يعني بقاء الأزمة البحرينية مدى الحياة”.. ويزداد الوضع قتامة بالنظر إلى تجربة آية الله قاسم وأمين عام الوفاق علي سلمان مع وعود الملك التي لا تنفذ، سوء تلك المتعلقة بتقرير البندر أو الإصلاح السياسي من خلال البرلمان.

بناء على ما سبق، يمكن الخروج بالنتائج التالية:

أولا، إن الوصول إلى تسوية أمر وارد، بالنظر إلى حدوث ذلك في ١٩٢٣، ١٩٧٣، و٢٠٠١، والمشاركة في انتخابات 2006 و2010. وذلك يعني توقّع أن تقدّم السلطات تنازلات قد تعتبر حاليا خطا أحمر، ويعني أيضا احتمال أن تساهم الجمعيات السياسية المعارضة في الترويج للتسوية المنظورة، أو تتفهمها، أو عدم مواجهتها.

ثانيا، يرجح أن تكون التسوية التي قد يتم الوصول هشة أو مؤقتة (أوسلو بحريني جديد)، عوضا عن توافق مجمع عليه وطنيا. بمعنى أنه يصعب أن تكون التسوية المرتقبة دائمة/ تاريخية، بل إني أرجح أن لا يتم الوصول إلى تسوية على الوصول إلى تسوية تاريخية. وفي حال اتسم الحل المفترض بصفة الرصانة والديمومة، فإن احتمالات نكوص السلطات عنه سيكون مرجحا، كما حدث ذلك في ١٩٧٣ بتعليق الدستور، و٢٠٠٢ بإصدار دستور جديد دون استفتاء الشعب.

ثالثا، لا يعطي المسار الحالي فرصة للقول بأن السلطات والمعارضة ستكون مضطرتان لتقديم تنازلات تاريخية، لا أحد منهما يستطيع إجبار الآخر على الاستسلام.

وأرجح أن تستمر الحرب البادرة في البحرين حتى بعد ٢٠١٤، وقد تتخللها فترات من الحرب الساخنة، فالنظام عصي على الإصلاح، وهو لن يقدم تنازلات جوهرية في ظل حراك غير قادر على الوصول إلى العاصمة، ولا يهدد مركز القرار. أما المعارضة فقد خبرته وشربت من قمعه ومناوراته السياسية كثيرا، ولا يزال شارعها صامدا ومتمسكا بمقولاته في التحول الديمقراطي. وهذا يعني أن تحقيق “وثيقة المنامة” التي تعبر عن تطلعات المعارضة في مملكة دستوريية لن يكون متاحا، أما اللعبة السياسية كما كانت قائمة قبل فبراير ٢٠١١ فلا يمكنها أن تحقق الاستقرار والرفاه.

رابعا، تعول المعارضة المعتدلة (جمعيتا الوفاق ووعد وشريكاتهما في الائتلاف) على كونها تسير في الاتجاه الصحيح من التاريخ، لكن هذا ليس كافيا لإنجاز انتصار تاريخي. إن نموذج الأحزاب الكلاسيكية (مثل حزب النهضة التونسي، وحركة الإخوان المسلمون المصرية، والوفاق البحرينية، وحزب العدالة والتنمية المغربي، وحزب الدعوة العراقي)، رغم كونها أحزاب معارضة للأنظمة الدكتاتورية على امتداد زمني طويل، وتجذرها شعبيا، ونفوذها مؤسسيا، وعلاقاتها الإقليمية والدولية المهمة، فلا يمكنها أن تحقق انتصارا في ظل ظروف أمنية خانقة.

لقد انتظر “الإخوان المسلون” ثمانين عاما للوصول إلى الحكم بفضل ثورة 25 يناير، وهكذا حال “النهضة” التي تقود الترويكا في تونس بعد ثورة لم يتوقعها زعيمها راشد الغنوشي، ووصل حزب العدالة والتنمية المغربي إلى رئاسة الوزراء بفضل حراك ثوري اختار محمد السادس أن يستجيب ـ نسبيا ـ له طوعا، أما حزب الدعوة العراقي فتسنم الحكم في بغداد بعد إطاحة أميركا بصدام حسين.

إن الطلب من “الوفاق” (أو أي حزب كلاسيكي) تحقيق انتصار ثوري أشبه بالطلب من طيار إجراء عملية جراحية، فلم ينجز أي من الأحزاب الكلاسيكية انتصار ثوريا، لكن انجازها المهم تمثل في رفض الرضوخ للأمر الواقع، ورفد الصراع بكوادر ومال وغطاء سياسي وشرعي.

وإذا كان بحر السياسية الكلاسيكي لا يحقق انتصارا تاريخيا على السلطات الدكتاتورية، فإن النموذج البحريني الممانع فمكبل، ولا يمتلك أدوات التغيير، كما امتلكها في فبراير ومارس 2011.(29)

خامسا، لعل النموذج القادر على التغيير الجوهري هو الحراك الثوري، على غرار ذاك الذي أطاح بالرئيسين السابقين المصري مبارك والتونسي وبن علي، والذي ساد البحرين بين فبراير ومارس ٢٠١١، ومازالت مفاعليه وارتداداته وآثاره وتداعياته بارزة.

إن قوة الحراك الشعبي على الأرض ستكون حاسمة في المسار الذي هو قيد التشكل حاليا، وقد يكون جاهزا للإشهار في ٢٠١٤، كما أن الحراك الشعبي المستمر قد يهب عاصفة من جديد في أية لحظة على شاكلة أحداث 2011.. بيد إنها لحظة قد تنتظرها البحرين فترة ليست بالقصيرة إلا إذا ساد اقتناع بإنه حتى الثورة يمكن التخطيط لها مسبقا، إذ ليس صحيحا أن الثورة كالزلزال الذي لا يمكن التنبؤ بها، تقديري إنها حدث يمكن تخليقه وتهيئة الأرضية لانطلاقته.

ثامنا، كل ذلك لا يعني، بالضرورة، تحصين الجمعيات المعارضة من الذهاب إلى “أوسلو” جديد، لظروف بعضها موضوعي، وأخرى تتعلق بطبيعة البنية الحذرة للمعارضة، ذلك أن تيار الاعتدال يقوم أصلا على فكرة التسويات المرحلية للوصول إلى نتيجة أفضل، إلا إذا تهيئ للمعارضة فرصة لتسديد ركلة جزاء قد تحقق منها هدفا غير متوقع.

لكن “أوسلو” جديد يمكن أن يقصم ظهر “الوفاق”، والأهم أنه قد يوجه ضربة قاصمة للحراك الشعبي، كما حجم “أسلو” القضية الفلسطينية وأرهق حركة “فتح”.

تاسعا، إن غرور السلطة يمنعها من قراءة المتغيرات المحلية والدولية، فيما طموح الحراك الشعبي يمنعه من توقع تعرضه للانكسار، مع أن ذلك حصل في الخمسينيات والتسعينيات، لكن هذا لم يمنع تجدده بصورة أكبر. ولا يساعد ذلك إلا على القول بأن الأرض البحرينية ستظل مسرحا للتوتر لن يحل إلا بتسوية “رصينة” وتاريخية وتقوم على التوافق الوطني..

__________________________________________

  • 1-       عباس بوصفوان، لماذا يخجل تجمع “الفاتح” من كونه موالاة، مرآة البحرين، ٢ أكتوبر ٢٠١١.
  • 2-         صحيفة الوسط، 3 أغسطس 2012.
  • 3-        شهدت الانتخابات مشاركة شعبية محدودة بلغت نحو 17.5٪[3]، بسبب مقاطعة الوفاق وعموم المعارضة لهذه الانتخابات
  • 4-       عباس بوصفوان، البحرين: تعديلات دستورية هشة.. لا تلقى صذى محليا ودوليا، مركز البحرين للدراسات في لندن، مايو ٢٠١٢.
  • 5-       للإطلاع على مبادرة ولي العهد، أنظر: صحيفة الوسط، 13 مارس 2012.
  • 6-         http://alwefaq.net/~alwefaq/index.php?show=news&action=article&id=6817
  • 7-       تسنم الملك حمد مسئولية بناء الجيش منذ عين وليا للعهد في 1969، وأعطاه والده الأمير الرحل عيسى بن سلمان آل خليفة صلاحيات واسعة في ذلك، ومنع تدخل رئيس الوزراء القوي حينها من التدخل في شئون الجيش، فيما احتكر الشيخ خليفة القرار السياسي والاقتصادي منذ استقلال البحرين حتى مجئ الملك حمد للحكم في 1999، ولم يعد الشيخ خليفة ذي تأثير في القرار بعد تجريده من صلاحياته الفعلية.
  • 8-       البحرين: التغيير الديمغرافي وآليات الإقصاء http://www.bcsl.org.uk/ar/documents/472-albander-report
  • 9-       عباس بوصفوان، البحرين ديكتاتورية بوجه ليبرالي، صحيفة الأخبار، بيروت، 7 يوليو 2012 .
  • 10-     عباس بوصفوان، الجيوبوليتك والديمقراطية في البحرين، صحيفة الأخبار، بيروت، 20 أكتوبر 2011.
  • 11-   د. سعيد الشهابي، البحرين 1920ـ 1971: قراءة في الوثائق البريطانية.
  • 12-     أنظر: الملك ورئيس الوزراء.. الصدام العلني، في: عباس بوصفوان، بنية الاستبداد في البحرين: قراءة في توازنات النفوذ في العائلة الحاكمة، مركز البحرين للدراسات في لندن، ١١ سبتمبر ٢٠١٢.
  • 13-   لمزيد من التفاصيل عن المشروع، أنظر أسئلة عامة عن مشروع إصلاح سوق العمل في الوصلة التالية: http://portal.lmra.bh/arabic/faq/category/2
  • 14-   صحيفة الوسط، ٧ يناير ٢٠١٢.
  • 15-     صحيفة الوسط، ٢٩ يوليو ٢٠١٢.
  • 16-   الملك يخنق رئيس الوزراء في عرينه الدستوري، في: عباس بوصفوان، بنية الاستبداد في البحرين: قراءة في توازنات النفوذ في العائلة الحاكمة، مركز البحرين للدراسات في لندن ١١ سبتمبر ٢٠١٢.
  • 17-   عباس بوصفوان: إلى أين يقود ولي العهد قطاع النفط والغاز، مرآة البحرين، ٣٠ يوليو ٢٠١٢.
  • 18-     د. عيسى أمين، محاكمات ذكرى هيئة الاتحاد الوطني، ورقة قدمت في جمعية “وعد”، 23 ديسمبر 2004.
  • 19-   أنظر: توصيات بسيوني.. وصفة لإسقاط النظام، في: عباس بوصفوان، بنية الاستبداد في البحرين: قراءة في توازنات النفوذ في العائلة الحاكمة، مركز البحرين للدراسات في لندن، ١١ سبتمبر ٢٠١٢.
  • 20-      د. عيسى أمين، هيئة الاتحاد الوطني في الوثائق البريطانية، ورقة قدمت في مقر المنبر الديمقراطي،  الأحد 24 أكتوبر 2004.
  • 21-   لمعرفة خلفيات الاستقلال، أنظر: يوسف مكي، استقلال البحرين 1968ـ 1971: الموقف الشعبي وموقف القوى الإقليمية والدولية، مركز البحرين للدراسات في لندن، 14 أغسطس 2012.
  • 22-     أنظر: قراءة لدوافع سقوط الملكية، في: عباس بوصفوان، بنية الاستبداد في البحرين: قراءة في توازنات النفوذ في العائلة الحاكمة، مركز البحرين للدراسات في لندن، ١١ سبتمبر ٢٠١٢.
  • 23-     مرجع عن فوز الوفاق بهذه النسبة.
  • 24-      للإطلاع على إشكالية توزيع الذوائر، أنظر.
  • 25-   للاطلاع على احصاءات الكتلة الانتخابية، أنظر الوصلة التالية http://www.alwasatnews.com/index.php?plugin=elections&act=read&id=117
  • 26-   أنظر الوصلة التالية http://www.youtube.com/watch?v=-REw_X0xxM4
  • 27-     صحيفة الأيام، ٥ فبراير ٢٠٠٢.
  • 28-     صحيفة الوسط، ١٠ أكتوبر ٢٠٠٤.
  • 29-      أنظر: عباس بوصفوان، المعارضة البحرينية: فشل المسايرة والممانعة، القدس العربي، لندن، ٢٤ يونيو ٢٠١٢

المصدر: الفصل الخامس : البحرين 2014: السنياريوهات المحتملة للتسوية

انشر وشارك

مقالات ذات صلة