abbasbusafwan@gmail.com

مأسسة الانقسام في البحرين: المقاطعة والاستفتاء الشعبي في مواجهة الانتخابات الحكومية

هذه المرة، ستعلن في العاصمة البحرينية (المنامة) ثلاث نسب مئوية، تعكس رؤى سياسية مختلفة: من جهتها ستعلن الحكومة نسبة المشاركة في الانتخابات النيابية (والبلدية)، كما ستعلن الجمعيات السياسية نسبة أخرى مغايرة لحجم المشاركة، أقل بكثير مما ستعلنه الحكومة، فيما سيعلن ائتلاف 14 فبراير نسبة  المشاركة في “حق تقرير المصير” بناء على استفتاء شعبي قام بتنظيم أمس، ويستمر اليوم أيضا.

إذا، البحرين إزاء مشروعين على نحو أوضح مما سبق: مشروع حكومي، أبرز تجلياته الانتخابات النيابية التي تجرى اليوم، بهدف تثبيت الوضع القائم، ومشروع معارض يتطلع إلى إعادة هيكلة السلطة ومنحها صيغة (وليس صبغة) شعبية. لكن، ليس واضحا بعد فيما إذا كانت المعارضة قادرة على تحويل مفردات: المقاطعة والاستفتاء الشعبي وما يسمى “العصيان المدني” إلى مشروع ناهض، لكن من المؤكد أن مسارا مضادا للسلطة قد أخذ بالتبلور كمشروع “إيجابي” (خطوات فعلية).

الانتخابات: مباراة مملة ومسجلة

قطاعات واسعة لن تشارك في الانتخابات النيابية والبلدية التي ستبدأ اليوم. وتلجأ السلطات بشكل علني إلى أسلوب الجزرة والعصا من أجل إغراء الجمهور الموالي  على الذهاب إلى صناديق الاقتراع الموزعة في مختلف مناطق البحرين، بما في ذلك ما يسمى “مراكز عامة”، يبدو انشاؤها مثيرا للجدل، وقد اعتادت السلطات استخدامها لزيادة نسبة المشاركة، أو ترجيح مرشح على آخر، عبر الدفع بالمجنسين (يمثلون نحو 40% من الكتلة الانتخابية) والعسكريين للتصويت لمرشحين محددين سلفا. (كثير من العسكر من المجنسين أيضا، فضلا عن بحرينيين من الموالين السنة، إذ تحرم الغالبية الشيعية عموما من العمل في الجيش، وفي مناصب يعتد بها في الجهاز الأمني).

وقد أعلنت جهات حكومية وشبه حكومية منح المشاركين في الانتخابات أولوية التوظيف في القطاعات الرسمية، فضلا عن تقديم جوائز (آيفون 6 مثلا) لمن يدلي بصوته.

ولا يعوّل الجمهور الموالي (فضلا عن الأغلبية المعارضة) على المؤسسة البرلمانية، المحدودة الصلاحيات، في تحقيق انجاز تشريعي، أو في تفعيل الرقابة على السلطة التنفيذية التي تهيمن عليها العائلة الحاكمة، أو في توفير الخدمات التي يتم إنجازها ببطيء، ومع ذلك تروج الخدمات في الاعلام الحكومي وشبه الحكومي باعتبارها مكرمات ملكية للمواطن، وليست حقوقا أصيلة للمواطنين.

ويزيد غياب المعارضين عن حلبة الصراع الانتخابي من عزوف الموالين السنة، إذ تفتقر الحلبة المفترضة إلى الخطاب الحماسي والتعبوي والناقد للسلطات الذي يميز خطاب الجمعيات المعارضة.

ويصعّب غياب المعارضين على السلطات استثمار الخطاب الطائفي في تثوير الجماعات السنية التي ترى نفسها لاعبا وحيدا في معركة معروفة النتائج سلفا (تصور إلى أي حد ينتابك الملل وأنت تشاهد مباراة مسجلة وتعرف نتيجتها سلفا)، ومع ذلك، لم تختفِ الخطابات التي تدعي أن المعارضين ينوون شرا بالسنة والنظام عبر مقاطعتهم الانتخابات، لكن ذلك يبدو تأثيره محدودا لجهة الدفع بمزيد من الرأي العام السني للمشاركة في انتخاب برلمان تم تجربته لثلاث دورات متتالية، وقد بدا ألعوبة في يد السلطات الحاكمة، لدرجة أن وزيرة الثقافة مي آل خليفة وصفت أعضاءه مرة بأنهم “مب ريايل” (ليسوا رجالا)، حين انتقدوا بعض فعالياتها الغنائية.

ارهاب المقاطعين: فشل ذريع

في الجانب الآخر، يصنف الخطاب الرسمي المقاطعين في خانة الخيانة، أو على الأقل في حالة مخالفة القانون، ويتوجب اتخاذ إجراءات بحقهم. وتلجأ السلطات صراحة إلى ترهيب الجمهور المعارض عبر الحديث عن إن الامتناع عن الذهاب الى مراكز الاقتراع سيؤدي إلى حرمان المناطق التي تسودها المقاطعة من الخدمات الحكومية، وهي خدمات سيئة أصلا، وتقدم وفق منحى تفضيلي إلى المناطق الموالية للعائلة الخليفية الحاكمة، لكن العديد من هذه المناطق أيضا تشتكي سوء الخدمات.

تلك الإجراءات لم تكسر الإجماع السائد في أوساط المعارضين، في الداخل والخارج، الليبراليين واليساريين والإسلاميين، بضرورة مقاطعة الانتخابات، التي يريد النظام استثمارها لتأكيد شرعيته المزعومة، وللقول أن السلطات تجاوزت الأزمة التي تفجرت على نحو تجاوز أي توقعات، في فبراير 2011.

في الواقع، فإن مضي السلطات في إجراء انتخابات من طرف واحد، ودون توافق وطني، وبتجاهل تام لأطروحات المعارضين، يدفع القوى المعارضة، القوية للتأثير في الشارع، لخيار وحيد: الاجماع حول المقاطعة، لكن هذه الاجماع لم يتحول بعد برنامجا متوافقا عليه، خصوصا للفترة التي تلي إجراء الانتخابات، فيما التوقعات بأن هذا الاجماع قد لا يدوم بعد الانتخابات، في ظل رغبة الوفاق والجمعيات السياسية الأخرى بمواصلة الحوارات الفضفاضة مع السلطة، ورفض الجماعات التي تصنف نفسها بأنها “ثورية” لأي خطوة تعيد الاعتبار لحكم الملك حمد، الذي تراه قد سقط بخروج الناس إلى الاعتصام في دوار اللؤلؤة (فبراير _ مارس 2011).

ومن دون شك، فإن مقاطعة الوفاق (كبرى الجمعيات السياسة في البلاد) للانتخابات، والتي حصلت على نسبة تبلغ نحو 65% من أصوات الناخبين في 2010، ستجعل نسبة المشاركة متدنية. وستلجأ السلطات، ردا على ذلك، إلى إعلان نسبة مشاركة تختلف عن النسبة التي ستعلنها المعارضة أو الجهات المستقلة، الاعلامية أو المدنية، كما حدث في 2002، حيث جرت الانتخابات في ظل مقاطعة أغلب جمعيات المعارضة، و2011، حيث جرت انتخابات تكميلية لملأ المقاعد الـ 18 التي استقال منها أعضاء الوفاق بعيد الهجوم الدموي على دوار اللؤلؤة، وفي الحالتين (2002، 2011) تضاربت الأقوال حول نسبة المشاركة، لكن الاجماع الدولي يكاد يكون أكيدا بشأن افتقار الانتخابات تلك للزخم الشعبي.

الاستفتاء الشعبي: تحدي الخطوة التالية

في قبال المقاطعة “السلبية” للجمعيات السياسية المحافظة (المعتدلة)، والحريصة على تفادي حرب مفتوحة مع النظام الذي يهددها بالحل وإغلاق المقرات، (لم تخضع الجمعيات لهذه الضغوط)، ظهر نشاط ائتلاف 14 فبراير، على نحو لافت، يعيد إلى الأذهان فعالياته النوعية الشعبية والسلمية في 2011، و2012.

وتشكل الائتلاف الشبابي إبان اعتصامات دوار اللؤلؤة في 2011، كتنظيم سري، ولم يعلن عن وجوه تمثله طوال السنوات الثلاث والنصف الماضية، لكنه كسر العرف هذه المرة، حين أعلن تشكيل الهيئة الوطنية المستقلة للاستفتاء الشعبي (على تقرير المصير)، وسمى امرأة (بلقيس رمضان) رئيسة للهيئة.

وظهرت رمضان في مؤتمرات صحافية، أذاعتها التلفزيونات الصديقة للمعارضة البحرينية، في خطوة تعكس احتضانا إقليميا لهذه الخطوة.  أما محليا فقد نأت الجمعيات المعارضة بنفسها، رسميا، عن الاستفتاء، لكنها تدعمه بشكل غير معلن، فيما عبرت القوى “الثورية”، ومعظم زعمائها إما في السجون، أو في يقيمون خارج البلاد، عن تأييد الاستفتاء علنا.

ولا يمكن إخفاء البعد الرمزي للاستفتاء، لكن تنظيمه على هذا النحو المدهش، وفي ظل تجاوب شعبي ملحوظ، واحتياطات أمنية عالية، يعكس قدرة الشباب المعارض على المضي في خطوات أحادية، في ظل إصرار النظام على الذهاب بعيدا في خط انفرادي. فالاستفتاء غير المتوافق عليه مع النظام، الذي يطالب الائتلاف بسقوطه، يأتي ردا أيضا على الانتخابات التي لم تتوافق السلطات بشأنها مع الجماعات المعارضة.

ويلوّح الاستفتاء باللجوء إلى القوى الإقليمية والمنظمات الدولية في ظل تدويل واضح للمسألة البحرينية، وقد اتخذ التدويل معطى جديا مع استمرار الوجود العسكري السعودي في البحرين.

بيد إن الأهم في تقديري، هي القدرات التنظيمية التي يكتسبها الائتلاف في إدارة عملية الاستفتاء، في ظل حملة أمنية عنيفة، والثقة المتزايدة التي يمكن أن يكسبها في أوساط الراي العام، الذي لا يجد بدائل حقيقية لدى جماعات المعارضة لمواجهة السلطات التي تمضي في نهجها الأمني.

وعادة ما تبدأ الجماعات “الثورية” في اقتراح الأفكار، وتتبعها الجماعات السياسية، وإن بعد حين. ينطبق ذلك على الدعوة إلى اسقاط رئيس الورزء التي تبناها عبدالهادي الخواجه في 2004، كما ينطبق على اعتصامات اللؤلؤة التي أدخلت العديد من المعطيات للوضع القائم في الجزيرة الصغيرة.

إن الانتخابات التي تجريها السلطات من ناحية، وحملات المقاطعة والاستفتاء الشعبي التي تقوم بها أطراف المعارضة، من ناحية أخرى، تعكس بجلاء عمق الانقسام في البحرين، وهو انقسام من المرجح ازدياده في المرحلة المقبلة، في ظل رفض السلطات أي تفاوض جدي حول التحول الديمقراطي، وإقليم يغذي الاضطرابات.. وليس بعيدا القول أن الخشية جدية من تحول الانقسام إلى انفصال، يدفع بالأطراف جميعها إلى نقطة اللاعودة.

المصدر: مأسسة الانقسام في البحرين: المقاطعة والاستفتاء الشعبي في مواجهة الانتخابات الحكومية

انشر وشارك

مقالات ذات صلة